23 سبتمبر 2025
تسجيلبدأت في النرويج محاكمة أندرس بيرينغ بريفيك، القاتل الذي أرعب مجتمعات أوروبا الصيف الماضي حين فجَّر سيارة مفخخة بالقرب من مركز رئاسة الحكومة في أوسلو قبل أن ينتقل إلى مخيم شبابي في ضاحية أوثويا ليطلق النار على كل من استطاع رؤيته، إلى أن حاصرته الشرطة وقبضت عليه. كانت الحصيلة سبعة وسبعين قتيلاً خلال بضع ساعات في جريمة هي الأبشع التي يشهدها النرويجيون منذ الحرب العالمية الثانية، أي منذ نحو ستة عقود. كان الجدل الذي طغى على افتتاح المحاكمة يتعلق بالحال العقلية لبريفيك، ذاك أن الرأي العام، ومن ثم القضاء توصلا إلى اقتناع أولي بأن من يرتكب هذه الجرائم لابد أن يكون مختلاً عقلياً, وفي العادة يختبئ المتهمون ويتحمس المحامون لأي تقرير طبي يفيد بمثل هذا الاختلال، كونه نصف الطريق نحو "البراءة"، ثم أنه يزعزع المحاكمة ويلقي بثقل على القضاة، ويتيح للدفاع أن يقول إن المتهم تصرف تحت تأثير حال غير طبيعية ولم يكن يعي ما يفعله، في أقل تقدير، هذا يمكن أن يخفف العقوبة، وأصلاً ليس في القانون النرويجي ما يمكن القضاة من الحكم بالإعدام، هذه العقوبة ملغاة منذ عام 1905. الحاصل هو أن المجرم ومحاميه رفضوا أي تشكيك في الملكات العقلية أو النوازع النفسية لبريفيك، وإذ أغضبه ما توصل إليه الأطباء وكتب هذا الأخير رسالة من خمسة وثلاثين صفحة وجهها إلى كل وسائل الإعلام يفند فيها مائتين وعشرين نقطة ليبرهن أن التقرير النفسي كان خاطئاً، بل استخلص أن هذا "أسوأ"، ما يمكن أن يحدث له، معتبراً أنه "الإهانة القصوى" التي يتعرض لها "ناشط سياسي" بأن يرسل في نهاية المطاف إلى مستشفى عقلي، فبهذا في نظره "أكثر ترويعا له من قتله" كان الاختصاصيون اعتبروا أن شخصاً مزهواً بالجرائم التي ارتكبوها ويبتسم متفاخراً كلما رأى صورة في الصحف أو على شاشات التلفزة "لا يمكن أن يكون شخصاً عادياً"، لكنهم اضطروا أمام إلحاحه إلى إصدار تقرير ثان يكتفي بعرض ردود فعله من دون الجزم باختلاله عقلياً. بناء على ذلك انتقل بريفيك إلى الخطوة التالية من استراتيجية محاكمته. إذ دخل قاعة المحكمة رافعاً قبضته بالتحية الفاشية فور فك قيوده، وبعدما تليت الوقائع سأله القاضي هل يعترف بها، فأكد الاعتراف لكنه ينقضه بالقول: غير مذنب، كيف ذلك؟ يشرح محاميه أنه تصرف بدافع "الدفاع عن النفس" ضد المهاجرين المسلمين الذين صادروا بلاده، النرويج! ولذلك فإنه مستعد لتكرار ما فعله إذا سنحت له الفرصة ثانية. وهكذا ستكون لبريفيك المحاكمة السياسية التي حلم بها، لكن المحكمة ستحاول طوال الوقت أن تتمسك بوقائع المقتلة التي أقدم عليها، أما هو فيريد أن يسألوه عن دوافع القتل وأسبابه طالما أنه أقر بأنه قتل ولا يبدي أي شعور بالذنب أو بالعار، ولا بالندم أو التوبة، وبالنسبة إليه فإن الهدف السياسي يبرر ما فعله، ولا يمكن المحكمة من أن تحاكمه أو تجادله سياسياً، وإلا فإنها ستتحول إلى محكمة لآراء مهما بلغ تطرفها لا يجوز أن تسأل طالما أن صاحبها انتقل إلى القتل، وبالتالي فإن المتهم الذي يمثل أمامها ارتكب جرائم، ولا يهم بعدئذ ما يقوله لتبريرها، والمعروف مسبقاً أن العقوبة القصوى في النرويج هي واحد وعشرون سنة سجناً، غير أن جدلاً آخر يدور حالياً حول إمكان تمديدها، لأن بريفيك يشكل حالة خاصة تجعل منه تهديداً دائما للمجتمع، وهو لا ينكر ذلك إذ كرر أنه مستعد للقتل في أي فرصة جديدة. الناجون من المجزرة وأهالي الضحايا وقطاع كبير من الرأي العام استاؤوا من تركيز الجدل على الحال العقلية للمتهم بدل تسليط الضوء على بيئة اليمين المتطرف التي خرج منها، خصوصاً أنه تبرع بالقول إن ثمة خليتين تتأهبان للتحرك مثله. هذا سيحيل بدوره، إلى اشتباه الناس بأن محدودية القضاء لا تحميهم، فهذا قاتل يبدو أمام قضاته كأنه هو الذي يحاكمهم، بل يحاكم سياسات الدولة من خلالهم، ليقول إنه كمواطن أوروبي غربي يعتنق قيم الغرب أصبح يشعر بالغربة في مجتمعه الذي يتعرض لغزو المهاجرين، بالأحرى المسلمون، وهؤلاء ينقلون عاداتهم وطقوسهم، ما يعني أنهم في صدد تغيير طبيعة مجتمعه. وقد سبق له أن بث على موقعه على الإنترنت، ما سماه "المانيفستو" الذي يشرح فيه مآخذه بل غضبه من السياسات المتبعة إلى حد ما أفاد في محاكمته أنه كان ينوي قطع رأس رئيسة الحكومة. كل ذلك لا يجعل من جرائمه رد فعل مشروعاً أمام أي قانون، وإنما يشير إلى أنه شخص غريزي متعصب يوحى بأنه صنع "قضيته" بنفسه وبفعل قراءاته لكتابات مفكرين متعصبين وعنصريين، كما تأثر بالخطاب السياسي لليمين الإسرائيلي المتطرف. لكن ما لم تظهره التحقيقات معه هو اقترابه ومعايشته لأحزاب ومجموعات يمينية في بلاده، وهذا قصور فادح، لأن بريفيك يمثل نموذجاً لناشط منزوٍ ومنكفئ لا يمكن كشفه إلا بعد أن يرتكب الفظاعات، وبالتالي إذا لم تتوصل محاكمته إلى إدانة سياسية له فضلاً عن العقوبة الجنائية، فإن القاتل الآخر سيظهر لاحقاً ليجدد الإدانة للنظام القائم وسياساته، علماً أن نسبة المسلمين في النرويج لا تشكل ظاهرة نافرة وخطيرة، كما هي عليه الحال في فرنسا أو ألمانيا وبريطانيا على سبيل المثال. تكمن خطورة بريفيك وأمثاله في أنهم يجهرون بقول ما يفكر فيه كثيرون من دون إعلانه، حتى لو لم يكونوا منتمين إلى أحزاب معروفة بفكرها المتطرف، يكفي مثلاً أن يكون موضوع المهاجرين في أولوية اهتمامات المرشحين للرئاسة الفرنسية، وقبل ذلك للانتخابات البريطانية وغيرها، للدلالة على أن اليمين المتطرف بات يفرض أجندته على الأحزاب الموصوفة بالاتزان والاعتدال، سواء كانت من اليمين أو من اليسار. في أي حال، حتى مع الاعتراف لبريفيك وأمثاله أن لديهم حججاً محقة، فإن الثقافة السائدة لا تجيز لأي كان أن يكون قاضيا وجلادا في آن. وفي الأعوام الأخيرة تعددت الجرائم المشابهة بدوافعها، مع فارق أنها استهدفت أفراداً وظلت حالات معزولة، مع ذلك يعول على هذه المحاكمة في أوسلو ألا تبدي أي تسامح حيال الأفكار التي تترجم بجرائم أو تقود إليها.