17 سبتمبر 2025
تسجيليتقدم الأكراد في تركيا بحماس شديد إلى مرحلة إقامة سلام مع الدولة التركية. ولم يسبق لهم أن كانوا على هذا القدر من التفاؤل، وهم ربما يكونون في رهان قد لا يتكرر. رسالة "السلام المشرف" التي أطلقها بالأمس زعيمهم عبد الله أوجالان من ديار بكر، والتي تليت عنه كونه مسجونا منذ العام 1999 كانت تعبيرا عن الرغبة العارمة في أن يشهد المجتمع الكردي سلاما وطمأنينة افتقدها لسنوات، بل لعقود. لم يتعب الشعب الكردي في تركيا من الحرب والدم، ولكنه لا يريد أن يفوت فرصة الخروج من هذه الدوامة. الفرصة التي تلوح هي استعداد رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان وبالتالي حزب العدالة والتنمية لتلبية بعض مطالب الأكراد مقابل تخلي حزب العمال الكردستاني عن السلاح وتفكيك بنيته المسلحة وعدم الانفصال في كيان سياسي عن الدولة، كما حدث في العراق بالنسبة لشمال كردستان. المقايضة المقترحة قد تبدو معقولة وقابلة للتطبيق إذا ما التزم بها الطرفان في مراحل تطبيقها. أردوغان يريد من وراء هذه المقايضة أمرين أساسيين، الأول هو تعديل الدستور لإقامة نظام رئاسي يمكنه من أن يستمر في حكم تركيا لعشر سنوات مقبلة، كرئيس للجمهورية هذه المرة، ليستكمل التغيير الذي بدأه ويحسم نهائيا الصراع مع العلمانيين ويؤسس لتركيا مستقرة قادرة على القيام بأدوار إقليمية وعالمية وتعديل الدستور غير ممكن دون دعم النواب الأكراد كون الأحزاب المعارضة الأخرى ترفض الانتقال إلى نظام رئاسي. والهدف الثاني هو تعطيل العامل الكردي من أن يكون عامل ضغط على تركيا في هذه المرحلة الحساسة والخطيرة من التطورات في المنطقة وفي سوريا تحديدا. بل إن أي تسوية مع أكراد تركيا ستتيح تأثيرا على أكراد سوريا ليلتحقوا بركب هذه التسوية كون الغالبية العظمى من أكراد سوريا تؤيد أوجالان وتلتزم بتعليماته. لكن مفارقة تبدو حتى الآن وهي أن الأكراد ولاسيَّما عبر أوجالان بالذات يتكلمون كثيرا ومنذ أكثر من شهر حول توقعاتهم من الدولة التركية وما يمكن أن يكون خريطة طريق لحل المشكلة الكردية. فيما تلتزم الدولة التركية ما يشبه الصمت أو يكتفي أردوغان بتصريحات عامة غامضة من قبيل أنه سيحل المشكلة الكردية حتى لو تجرع سم الشوكران، وهو نبات شديد السمومة، من دون أن يوضح لا هو ولا أي من مسؤولي الحكومة أي تفاصيل عن ذلك. قد يكون التزام الصمت أحد شروط نجاح المفاوضات، لكن تصريحات أوجالان قبل يومين من مهرجان ديار بكر الذي أعلن فيه وقف النار والدعوة لسلام تاريخي ومشرف قد لا تجعل مسار المفاوضات والتطبيق مضمونا. فأوجالان يقول إنه أخذ على عاتقه ما يتوجب لحل المشكلة، لكن على البرلمان والحكومة القيام بما عليهما وألا يفوتا هذه الفرصة. مردفا: إن حزب العدالة والتنمية قد غير من رؤيته إلى المسألة الكردية وأصبح أكثر جديا لكن في الوقت نفسه "لست واثقا تماما مما سيفعله". لا شك أن عدم الاطمئنان الكامل هذا أمر طبيعي لمشكلة عمرها من عمر الجمهورية، أي منذ العام 1923 وعانى منها الأكراد على يد الدولة التركية ما لم يعانه شعب في التاريخ ما عدا الفلسطينيين، على يد الكيان اليهودي الغاصب. لذلك من الطبيعي وجود شكوك لدى الأكراد والتحذير من أفخاخ يمكن أن تنصب لهم وتحملهم مسؤوليات فشل المفاوضات أو أن تكون المفاوضات مجرد جس نبض من الطرفين لمعرفة إلى أي مدى يمكن أن يصل إليه الطرف الآخر في تقديم التنازلات حتى إذا لم تناسب تطلعاته قام بتعطيلها ونسفها لسبب أو لآخر. تحتاج تركيا وكل المنطقة العربية والإسلامية إلى السلام والاستقرار واعتراف كل هوية بالهويات الأخرى بعيدا عن لغة الدم والعنف والإنكار والتطهير العرقي والديني والمذهبي. تحتاج تركيا وكل المنطقة إلى ميثاق سلام وتعايش ديمقراطي حقيقي لتكون سيّدة نفسها وفي منعة كافية لمقاومة سياسة الهيمنات الغربية وإسرائيل على مقدراتها. وكلما كان البيت الداخلي قويا سهلت مقاومة الخارج بكل أطماعه. وتتسع هذه الأرض لجميع مكوناتها الأصلية وأقلياتها، وفي مقدمتهم الأكراد الذين يستحقون الحياة بكرامة وحرية ومساواة. الكرة كانت دائما لدى أنظمة الإنكار والصهر، واليوم أيضا الرسالة من ديار بكر، لكن الكرة في ملعب أنقرة.