03 نوفمبر 2025
تسجيلدمرت بغداد تدميرا وأبيد معظم سكانها في عام 1258م يوم أن سقطت، وكانت حاضرة الدولة العباسية وعاصمة الخلافة الإسلامية، وذلك على يد القائد المغولي هولاكو. لقد شكل اجتياح المغول لبغداد ودكهم معالم الحضارة والعمران فيها كارثة كبرى للمسلمين، ومثلما أحال إغراق آلاف المؤلفات القيمة والنفيسة في مختلف المجالات العلمية والفلسفية والأدبية والاقتصادية والاجتماعية التي مثلت إحدى أعظم مكتبات العالم القديم، لون نهري دجلة والفرات إلى لون الحبر؛ فقد أحالت دماء ضحايا الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003 ثم لاحقا التفجيرات المستمرة حتى اليوم، ذات النهرين العريقين إلى اللون الأحمر القاني. لقد فُزع أهل بغداد صباح الخميس الماضي على أصوات تفجيرين انتحاريين أديا إلى مقتل 32 شخصا و110 جرحى واختار المجرمون سوقا شعبية مكتظة وسط بغداد، وهذا الحادث الحاقد هو الأحدث في سلسلة تفجيرات وعنف مذهبي منذ ذلك الغزو الآثم الذي دك استقرار وأمن البلاد وأوقف تقدمها وازدهارها. وقصد الانتحاريان المدفوعان بأجندة الشر، إيقاع أكبر قدر من القتلى، فالأول فجّر نفسه في سوق البالة للملابس المستعملة شديد الاكتظاظ بفقراء الناس، بعد أن ادعى أنه مريض ليتجمع الناس حوله، بينما فجر الانتحاري الثاني نفسه بعد أن هرع الناس مرة أخرى لنقل وإسعاف الضحايا الذين أصيبوا في التفجير الأول، فأي سواد يظلل تلك القلوب المرتجفة وأي بغض وضغينة تحملها؟. لقد كان إسقاط النظام في العراق عام 2003، أكبر مفاصل التحولات التي تشهدها اليوم المنطقة والتي مهدت للفوضى الخلاقة، لقد حول الغزو الأمريكي استقرار المنطقة النسبي إلى حريق لا يبقي ولا يذر، وبات خصوم الوطن العربي في وضع أقوى، وتمحورت الوصفة الأمريكية للعراق في تغذية كل ما من شأنه اثارة الغرائز المذهبية لخدمة مشروع التفكيك في المنطقة. هناك حقائق مفزعة بخصوص ما جناه العراق من الاحتلال الأمريكي؛ إحصائيات وتقارير رسمية كانت قد بينت أن هناك مليون أرملة عراقية، حسب إحصائية رسمية صادرة عن وزارة المرأة العراقية عام 2008م، و4 ملايين طفل يتيم، حسب تقديرات وزارة التخطيط العراقية، ومليونان و500 ألف شهيد، حسب إحصائيات وزارة الصحة العراقية والطب العدلي حتى ديسمبر 2008م، وكان هناك 800 ألف مفقود، حسب إحصائيات الدعاوى المسجلة لدى وزارة الداخلية العراقية حتى ديسمبر 2008، و340 ألف سجين في سجون الدولة، حسب إحصائيات مراصد حقوق الإنسان، علما بأن القوات الأمريكية كانت قد اعترفت رسميا بوجود 120 ألف سجين لديها. فضلا عن 4 ملايين و(500) ألف لاجئ خارج العراق، حسب إحصائيات مديرية الجوازات العراقية حتى نهاية ديسمبر 2008. مليونان و(500) ألف مهاجر داخل العراق، حسب إحصائيات وزارة الهجرة والمهاجرين والمهجرين العراقية، كذلك انتشرت المخدرات المستوردة في طبقة الشباب وبنسب مخيفة، وفقا لإحصائيات وزارة الصحة العراقية ومركز مكافحة المخدرات والإدمان الكحولي في وزارة الصحة العراقية. وفيما يتلقى المواطن العراقي اليوم صنوفا من الأذى والتدمير والقتل من جانب الارهابيين والمتفلتين، يتلقى كذلك تنكيلا وعسفا من السلطات الرسمية وهو يطالب بتعديل الصورة المقلوبة ومحاسبة الطبقة السياسية المنتج الرئيس لحقبة ما بعد الغزو، ففي خلال العام المنصرم، كان هناك عنف مستمر ضد المتظاهرين الذين نظموا حركة احتجاجية غير مسبوقة في بغداد ومحافظات عدة، قُتل أكثر من 550 شخصا وجرح 24 ألفا منذ بدء الاحتجاجات في أكتوبر من عام 2019، وزادت بشكل ملحوظ عمليات اختطاف النشطاء وقتل الأفراد الذين ينتقدون المليشيات المتورطة في مجموعة واسعة من انتهاكات حقوق الإنسان. العراق اليوم وفي ظل خريطة سياسية قائمة على ايقاظ وإزكاء التباينات المذهبية، نجد أن الفساد أهم أبوب تمويل الصراعات السياسية والمذهبية، فلم يعد العراق دولة غنية ذات احتياطات مالية ضخمة بسب استشراء فساد الطبقة السياسية التي تتبادل الحكم، هناك 4 شبكات اتصالات لاسلكية قيمة كل شبكة (12) مليار دولار مملوكة لقادة الأحزاب، وفي ظل انخفاض أسعار البترول الذي تمثل عوائده نحو 90% من مجمل الدخل القومي، نجد أنها لم تتجاوز نحو 78 مليار دولار في 2019 بينما بلغت نحو 83 مليار في 2018، وحسب شركة تسويق النفط العراقية (سومو) أن البلد تصدر أكثر من 3 ملايين برميل يوميا، ويمكن ملاحظة الفجوة في معادلة الدخل القومي إذا ما علمنا أن الرواتب فقط تكلف الخزينة العامة نحو 72 مليار دولار، فما بال الوضع مع بقية منصرفات الدولة في مجال الدفاع والأمن وبقية التزامات الدولة فضلا عما يقضمه الفساد المستشري في جميع مفاصل الدولة. وبعد مرور نحو 22 عاما على إعلان خروج القوات الأمريكية تحديدا في عام 2009م، يتساءل العراقيون عن مدى صدقية مغادرة الاحتلال لأرض العراق؟، هل كان الأمر أشبه بالتمثيلية؟ ربما هناك يقين لدى قطاع واسع من العراقيين أن إعلان الخروج كان أكبر عملية خداع تمارسها الولايات المتحدة بالتعاون مع الطبقة السياسية العراقية المتنفذة على الشعب العراقي، فالواقع يقول إن الأمر كان في أحسن الأحوال عملية إعادة انتشار للقوات الأمريكية، وقد شمل المدن فقط، أما الانسحاب الحقيقي، لا الشكلي، أو الجزئي، لابد وأن يشمل العراق بأكمله. [email protected]