14 سبتمبر 2025
تسجيلللأديب الروسي الشهير أنطون تشيكوف رواية شهيرة بعنوان "حكاية رجل مجهول"، وهي وفقا للنقاد من أعمق ما كتب، وتحكي قصة إنسان (يبدو من التفاصيل القليلة التي تخصه أنه ناشط سياسي) يضطر إلى أن يتنكر في شخصية خادم، ليتسنى له التسلل إلى حياة مسؤول كبير في الدولة ومراقبته عن كثب، بهدف الحصول على مستندات أو وثائق معينة تدين هذا المسؤول الذي يعتبره بطل الرواية عدواً خطيراً للقضية التي يؤمن بها. ولكن على مدار القصة نجد أن البطل يفقد تدريجيا الحماسة لهدفه، وينسى الغرض الذي من أجله قبل بأن يتقمص هذا الدور، فرغم أن الفرصة تسنح له المرة بعد الأخرى لكي يحصل على بغيته، إلا أنه يتعايش مع الوضع الجديد، أي وضعه كخادم، فيقوم بما يقوم به الخدم، ويسارع إلى تلبية رغبات سيده ورغبات ضيوفه الذين يحلون عليه كل أسبوع، ليتحول الناشط السياسي من شخص سخر حياته من أجل مبادئه إلى شخص فاقد للبوصلة، يتقمص شخصية ليست شخصيته، ويعيش في بيت ليس بيته، وفي خدمة شخص من المفترض أنه كان خصمه. هذا الموقف رغم لا معقوليته إلا أنه يعكس حال من يقبل أن يتعايش مع أوضاع وأفكار لا يقبلها بحجة تفويت الفرصة على خصومه، فينتهي به الحال وقد اعتنق ما تظاهر به، وصدق ما كان يحاول إيهام الآخرين بتصديقه. هل يشبه هذا الموقف حال جماعة الإخوان في مصر؟ شواهد الإجابة بنعم تبدو كثيرة، فالجماعة التي نشأت من أجل قضية تؤمن بها، قدمت ومازالت تقدم من التنازلات الكثير والكثير بحجة التوافق والتفاهم مع خصومها، أو بحجة استيعابهم وعدم استثارة عداوتهم ضدها. ولكنها وهي تفعل ذلك فإنها تغامر بنسيان قضيتها الأصلية والتخلي عما كانت تؤمن به. فالجماعة بدأت مشوارها السياسي بعد الثورة بمحاولة التوافق مع التيارات الليبرالية والعلمانية، بحجة تشكيل تحالف وطني موحد، ولكن هذا التحالف لم يدم طويلاً خصوصا بعد أن أفصح كل طرف عن تحيزاته، ورفض الاستمرار في التظاهر بالتعاون مع خصمه الأيدلوجي. كانت الجماعة تحاول طمأنة خصومها بقبولها التحالف معهم ولكن الجميع كانوا مقتنعين بأن ما تقوم به الجماعة مجرد مناورة، وأنها لن تتحول إلى حليف طبيعي لخصومها، ومن ثم انفض التحالف، ورجع كل طرف إلى مواقفه الحقيقية. وبعد تشكيل الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور حرصت الجماعة مرة أخرى على إظهار رغبتها في التوافق مع التيارات الليبرالية والعلمانية فيما يتعلق بصياغة المادة الثانية من الدستور، والخاصة بالشريعة الإسلامية، وذلك بالإبقاء عليها وفق نفس صياغتها التي كانت عليها في دستور 1971، وذلك حتى لا تتصادم مع هذه التيارات، وحتى تظهر لها أنها حريصة على مدنية الدولة، وأنها لا تمتلك أي نوايا خاصة بفرض لونها الأيديولوجي على مؤسساتها. الأمر الذي أدخلها في خلاف مع بقية أحزاب التيار الإسلامي، ولم يكسبها في الوقت نفسه رضا التيارات المدنية التي كانت الجماعة تحاول إرضاءها. ومؤخرا وبمناسبة الاستعداد للانتخابات التشريعية الجديدة أعلنت الجماعة من جديد أنها على استعداد للتحالف مع قوى المعارضة، التي تصر على أن ينص قانون الانتخابات على كوتة خاصة للمرأة، وذلك لإحراج بقية التيارات الإسلامية، التي تريد إعلاء معيار الكفاءة لا معيار النوع في تقديم المرشحين. من جديد سارع الإخوان إلى إبداء قبولهم للمقترحات المقدمة من المعارضة بهذا الصدد، وأعلنوا أنهم سوف يلتزمون بإدراج المرأة في النصف الأول من قوائمهم حتى لو لم يتم إقرار القانون الذي يدعو إلى ذلك. إستراتيجية التفاهمات والتوافقات لم تكن فقط على المستوى الداخلي وإنما وجدت تطبيقات مختلفة على المستوى الخارجي أيضاً، فقد سارعت الجماعة إلى مباركة فكرة الاقتراض من صندوق النقد الدولي، ليس لأنها تقبل الربا، أو لأنها حريصة على الاندماج في الرأسمالية العالمية، أو الإذعان للمشروطية السياسية المرتبطة عادة بقروض البنك الدولي، ولكن لإظهار توافقها مع المجتمع الدولي واستعدادها للتعاون مع مؤسساته. أما في مجال التعامل مع الولايات المتحدة وإسرائيل، فقد سارعت الجماعة إلى طمأنة الجميع بأنها لا تنوى مراجعة الاتفاقات التي أبرمها النظام السابق معهما، سواء على المستوى السياسي (اتفاقية السلام) أو على المستوى الاقتصادي (اتفاقية الكويز)، وذلك حتى تطمئن هذه الدول، ولا تستثير عداوتها، ومن ثم حتى لا تقوم الأخيرة باستهدافها بعقوبات اقتصادية كما فعلت مع إيران، أو بحصار اقتصادي كما فعلت مع قطاع غزة. أثناء وفي أعقاب كل هذه التفاهمات كان سؤال الهوية يضيع تدريجيا من يد الجماعة، وكان شعار التوافق يحجب عنها حقيقة الدور الذي يفترض أنها قد نذرت نفسها له، وهو إصلاح الدنيا وفقا للقيم الدينية. هذا الأسلوب المربك أصبح عائقاً ليس فقط على الأداء السياسي للجماعة ولكن على تعاطي مؤيدي الجماعة مع قراراتها وسياساتها، فالكثير من أتباع الجماعة أنفسهم أصبحوا لا يستطيعون التمييز بين ما تعتقده الجماعة على وجه الحقيقة وما تلزم نفسها به على سبيل التوافق والتفاهم. الأمر الذي قد يؤدي إلى خسارة الجماعة لكثير من أتباعها، خصوصا من فئة الشباب، كما قد يؤدي إلى خسارتها لأصوات الكثيرين ممن كانوا في السابق من المتعاطفين معها وذلك خلال الانتخابات التشريعية المقبلة. لقد انتفت العلة التي من أجلها تم رفع شعار التوافق، بعد أن أظهرت كل الأطراف في الساحة السياسية حقيقة مواقفها، تماما كما انتفت العلة التي من أجلها تقمص بطل رواية تشيكوف شخصية الخادم، إلا أن الجماعة تستمر في التصرف وفقا لمفهوم أثبت أنه غير ذي جدوى تماما كما استمر الخادم المجهول في أدائه لدور لم يكن ثمة معنى لاستمراره في تقمصه.