13 سبتمبر 2025
تسجيلكنت جالساً مرة في أحد المجالس، فسمعت حواراً بين شخصين بجانبي يتحدثان عن السياسة العامة في البلاد، ومن خلال حديثهما كان يبدو أنهما غير مثقفين، وكان مما قاله أحدهما للآخر، إن السياسيين في هذه البلاد لا يفهمون، ثم هز رأسه وقال؛ ما دام الذين يشتغلون بالأمور السياسية في بلادنا لا يفهمون فكيف تتقدم؟ هذا حديث سمعته منذ بضعة أسابيع، ونسمع مثله في الطرقات والأسواق والمجالس وهو يدل على نقطتين مهمتين: أما الأولى، فهي أننا شعب يعنى جميع أفراده، بالقضايا السياسية العامة، فهو يتتبع أنباءها في الصحف والإذاعة والأحاديث التي تدور في المنتديات.. وهي ظاهرة تدل على وعي وتبشر بخير. أما الثانية، فهي أن هذا الوعي لم يكتمل بعد، ولم ينتظم بحيث تستفيد منه البلاد، فلا يكفي أن تتبع أخبار بلادك وحوادثها، بل لابد أن تعرف حدودك في النقد والتأييد والمعارضة، وحين يبلغ الأمر بالذين لا يعرفون السياسة ومجرى الحوادث وظروفها أن يحكموا – من غير ثقافة تساعدهم – بأنهم أفهم من السياسيين جميعا، واعلم من كل من يتصدى للعمل العام من أحزاب ونواب وجماعات ومسؤولين بطرق الخير، يكون ذلك برهان الفوضى والسذاجة في الوعي الاجتماعي للأمة. والحق أننا في شؤوننا العادية نكاد نسلم جميعا بهذا المبدأ، ومن أمثالنا العامية في ذلك: "أعط العيش (الخبز) لخبازه ولو يأكل نصفه" ولكننا جميعا نكاد ندعى الخبرة والمعرفة أكثر من أي إنسان في أمرين مهمين في حياتنا هما: الدين والسياسة. فأما الدين فيكاد يزعم كل واحد منا أنه يفهم دينه تمام الفهم، وأنه أعلم بدينه من علماء الشريعة وفقهائها.. ونجد هذا الزعم واضحا في فريقين من الناس: الجاهلين من المتدينين، والجاهلين من المتحررين، أولئك يجرؤون في الفتوى على الله فيحللون الحرام ويحرمون الحلال من غير معرفة بنصوص الشريعة وقواعدها، وهؤلاء يجرؤون على الحق فيزعمون أن الدين ما وافق أهواءهم وطابق ميولهم من غير علم بمبادئ الشريعة وأحكامها وأصولها العامة. وأما السياسة فكل منا يدعي أنه أفهم بها من غيره، وأدرى بوجوهها الصحيحة ممن عداه، وليت الأمر اقتصر عند هذا بل يتجاوز إلى الاتهام في النوايا، والاتهام في الضمائر، والاتهام في السلوك فكل من يخالفنا في السياسة خائن، وكل من نعارضه في الحكم مرتش سارق، وهكذا ضاعت المفاهيم السياسية الصادقة والقيم الأخلاقية المستقيمة، فزرع الشك في تربة الوطن زرعاً، ولم يعد شعب يثق بسياسي ولا سياسي يحترم شعبا. قال صاحبي: ماذا عن الإسلام؟ أفيدني أفادك الله. قلت: لقد أمر الإسلام باجتماع الكلمة فقال: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا)، "آل عمران: 103"، فإذا اختلفت الآراء حول أمر اجتهادي وجب المسير مع الجماعة وألزم الإسلام الإنسان بأن يسأل أهل العلم بالشيء حين يجهله ويريد معرفته فقال تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، "النحل: 43"، وعاب على الذين يتبعون الظن ولا يتحققون فيما ينقلون أو يحكمون فقال تعالى: (قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وان أنتم إلا تخرصون)، "الأنعام: 148"، أما الذين يستمعون إلى أقاويل السوء فينشرونها من غير تحقيق ولا يرجعون إلى حسن الظن والتثبت في اتهام الناس فقد أنبهم القرآن في قصة الإفك أشد تأنيب ومن قوله تعالى في ذلك: (ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين)، "النور: 16-17". ومما أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: "ثلاث مهلكات: شح مطاعٌ، وهوى متبع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه"، رواه الطبراني. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فما يهلك الفرد أو الجماعة أكثر من بخل يستولي على النفس حتى تخضع له، ومن هوى يتحكم في الإنسان فإذا هو المسيطر عليه في أحكامه على الناس وعلاقاته بالجيران، من إعجاب بالرأي حتى لا يتبع جاهل عالما،ولا صغيرا كبيرا، ولا فرد جماعة. أيها الشباب، إن من واجبكم أن تتبعوا الأحداث التي تقع في بلادكم بكل يقظة وانتباه، فالوطن هو وطنكم، والخير الذي يعمه إن حسنت أحواله هو خير لكم ولأولادكم ولأحفادكم، والنار التي تحيط به إن امتدت إليه سوف تمتد فيما تمتد إلى بيوتكم وأموالكم، فكونوا يقظين في تتبع الأحداث، وكونوا عادلين في الحكم عليها، فما تبين لكم أنه الحق بعد إمعان نظر وسداد منطق فاحرصوا عليه، ولا تجاملوا فيه أحدا، ودافعوا عنه بالحكمة والموعظة الحسنة. وهذا هو موقفكم الذي ينبغي أن يكون من أحداث قومكم وشؤون بلادكم، وهو النهج الذي سنّه لكم المعلم الأكبر محمد صلى الله عليه وسلم حين قال: "إنما الأمور ثلاثة: أمر تبين لك رشده فاتبعه، وأمر تبين لك غيه فاجتنبه، وأمر اختلف فيه فرده إلى عالم" رواه الطبراني.