15 سبتمبر 2025
تسجيلإن تتابع صدور الحسابات الوطنية السنوية جيد وإن أتى متأخرا بسبب الأوضاع العامة، ولا بد من التنويه بالجهود الكبيرة التي بذلت وتبذل من قبل أجهزة الدولة اللبنانية لإصدارها. لا بد من تقوية مؤسسة الإحصاء الوطني بشريا وماديا وإعطائها الاستقلالية تجاه السياسيين كما في الدول الغربية حتى تقوم بأعمالها بشكل أفضل. نأمل أن تصدر الحسابات النهائية لسنة 2010 في الفصل الأول من 2011 لنعود كما كنا منذ عقود، أي سباقين في إصدار هذه الأرقام المهمة التي لا يمكن إجراء أي تحليل اقتصادي ومالي جدي من دونها. هنالك جوانب إيجابية لحسابات 2009 أهمها وصول نسبة النمو العام الحقيقي إلى 8.5% وتراجع نسبة التضخم من 10.3% في سنة 2008 إلى 1.2% السنة الماضية. ما يقلق هو تدني نسبة القطاعين الأولين من الناتج المحلي الإجمالي إلى حدود 12.5% (منها أقل من 5% للزراعة) مما يؤكد مرة جديدة على ضعف التنويع الاقتصادي وعلى اعتماد لبنان على القطاع الخدماتي وحده لتحقيق نمو عام. هنالك في كل حال اتجاه انحداري للقطاعين الأولين أي للزراعة من 6% من الناتج في سنة 2008 إلى 5% في سنة 2009. أما الصناعة، فانخفضت حصتها في الاقتصاد من أقل من 8% في سنة 2008 إلى 7.5% في سنة 2009. أهمية الزراعة والصناعة هو توزعهما على كل الأراضي اللبنانية وتحديدا وجودهما في المناطق البعيدة التي لا تستفيد من النمو العام الخدماتي كما يجب. هنالك مخاطر كبرى لوصول القطاع الخدماتي إلى حدود 88% من الناتج المحلي الإجمالي وهي نسبة قل وجودها حتى في أعرق الدول تطورا ونضجا في الاقتصاد. في الولايات المتحدة تصل حصة الخدمات إلى %80 من الناتج وفي فرنسا إلى 76% وفي سويسرا دولة الخدمات النوعية بامتياز إلى 73%. تكمن المخاطر في أن القطاع الخدماتي يتأثر سلبا بسرعة بأي خضة سياسية وأمنية يمكن أن تحصل ، أما القطاعان الآخران فيصمدان أكثر بكثير ولا بد من الاتعاظ هنا من تجربة حرب 2006 حيث خرج السواح والزائرون وتوقفت الخدمات وانهار النمو الاقتصادي الذي كان قويا في النصف الأول من السنة. إذا استمررنا في هذه الاتجاهات، ستتدنى أكثر حصة الزراعة والصناعة في الاقتصاد العام وسيكون لها تأثيرات سلبية كبرى على التوزع السكاني والتنمية والرفاهية الاجتماعية والفقر تفوق تصور السياسيين القصير الأمد عموما. إذا قارنا نمو الزراعة والصناعة بالاقتصاد العام بين سنتي 2008 و 2009 ، نرى أنها تدنت في الزراعة بينما ارتفع الإنتاج الصناعي بنسبة أقل من النمو العام مما يشير إلى اتجاهات غير متوازنة لتطور الاقتصاد اللبناني . هنا تكمن ضرورة مراجعة السياسات الاقتصادية اللبنانية كي لا نخسر ما تبقى من زراعة وصناعة. المطلوب معروف ويطالب به الصناعيون والمزارعون منذ عقود. يجب التعويض على المزارعين لتغطية الخسائر التي منيوا بها نتيجة العاصفة التي ضربت لبنان والمناطق الزراعية تحديدا منذ أيام. هذا لا يعتبر دعما، إذ إن الخسائر لم تنتج عن عوامل السوق بل عن غضب الطبيعة مما يحتم على الحكومة التدخل للتعويض عبر الموازنة أم عبر التبرعات والقروض أو غيرها من الموارد المالية. كذلك الأمر فيما يخص الصناعة عندما تأتي الخسائر ليس من السوق وإنما من السياسات العامة المسيئة لتطور الصناعة. مطالب الصناعيين معروفة منذ عقود ، فكيف لصناعة أن تحيى من دون كهرباء وكيف لزراعة أن تستمر من دون مياه وري وإرشاد متخصص وتسهيلات تسويقية وضرائبية وتمويلية. فالولايات المتحدة وأوروبا تتدخلان لمساعدة قطاعي الصناعة والزراعة ، فكيف في لبنان حيث مناعة القطاعين أضعف ليس نتيجة عوامل السوق وإنما نتيجة السياسات العامة غير المدروسة والإهمال المتراكم. مراجعة السياسات الاقتصادية لا تقتصر على لبنان طبعا وإنما هي واجب كل الدول خاصة تلك التي سببت الأزمة المالية العالمية وفي مقدمها الولايات المتحدة . لا يمكن تجاهل الموضوع بعد التجارب المرة التي لحقت بالاقتصاد الدولي حتى في الدول التي لم تصب مباشرة بشظايا الأزمة كمجموعة الدول النامية والناشئة. من أسوأ مؤشرات الأزمة هو ارتفاع نسبة البطالة الشبابية الدولية ( أي بين 15 و24 سنة ) من 11.9% في سنة 2007 إلى 13% في سنة 2009. تبعا لمنظمة العمل الدولية " ILO" ، هنالك 81 مليون شاب وشابة لا يعملون بسبب غياب الفرص ، مما يشير إلى ضياع إنتاج أجيال بكاملها. المطلوب ليس فقط المراجعة ، وإنما التنسيق فيما بين الدول المعنية لتقوية فرص الإنقاذ وبالتالي العودة إلى نسب نمو ما قبل الأزمة . ليس ضروريا تعديل آليات السياسة النقدية لأن أسباب الأزمة لا تعود إليها بل إلى سوء تطبيق الإجراءات القانونية بالإضافة إلى حاجة السلطات إلى أدوات جديدة للرقابة أكثر فعالية. من ناحية أخرى، هنالك مأخذ أساسي على المصارف المركزية الغربية وفي مقدمها الأمريكي الذي لو رفع الفوائد بشكل أسرع في بداية الألفية الثانية لجنب الاقتصاد الغربي الأزمة العقارية التي امتدت إلى كافة جوانب الاقتصادين المالي والحقيقي. أما السياسة المالية ، فقد ساعد الضخ على تجنب حدوث ركود أكبر أي بطالة مرتفعة تؤثر سلبا على الأوضاع الاجتماعية . في كل حال من الأفضل معالجة الفقاعات المالية عبر السياسة المالية وبالتحديد الضرائبية بدل تغيير الفوائد لأن مستوى الأخيرة منخفض ولا يمكن تخفيضه أكثر، كما أن للسياسة المالية تأثيرا إيجابيا مباشرا على الاقتصاد ككل وليس بصورة غير مباشرة كما هو حال الفوائد. نعلم جميعا وهذه دروس "كينز" إن تأثير زيادة الإنفاق على الاقتصاد أكبر بكثير من تخفيض الضرائب بسبب اختلاف قيمة "العامل المضاعف" بين الحالتين. أن توافر ادخار دولي كبير أسهم في تخفيض الفوائد في بداية الألفية الحالية مما شجع على الاقتراض والمخاطرة في الاستثمارات لتحقيق أرباح كبيرة. ارتفعت نسبة الادخار الخاص الدولي أي الناتج عن أعمال الأفراد والشركات من 29% من الناتج في سنة 2007 إلى 33% في سنة 2010. أن وجود خلل في الاقتصاد الدولي مرتكز على فائض ادخاري هائل في الصين وآسيا عموما بالتزامن مع عجز في ميزان الولايات المتحدة والعديد من الدول الغربية لا يمكن أن يستمر دون إحداث تقلبات نقدية من فترة إلى أخرى. تؤكد توقعات صندوق النقد على انخفاض العجز المالي في الدول الغربية في فترة 2011 – 2015 نتيجة تخفيض أو توقف الضخ المالي الحاصل منذ سنة 2008. رغم هذا التخفيض المتوقع، سترتفع نسبة الدين العام في الدول الصناعية من 91% من الناتج اليوم إلى 110% في سنة 2015. ارتفاعها بعشرين نقطة يؤدي إلى انخفاض النمو السنوي ب 0.3 نقطة، وهي تكلفة باهظة لدول تنمو أصلا بنسب ضعيفة. يقول الاقتصاديان "راينهارت" و"روغوف" إنه عندما تتعدى نسبة الدين العام من الناتج مستوى آل %90 يصبح الخوف مزدوجا، أي انخفاض نسبة النمو وارتفاع المخاطر المالية التي يمكن أن تؤدي إلى الإفلاس. يقول الاقتصادي "بول كروغمان" إن من واجب الدول تخفيض عجز الموازنة لأن بقاءه مرتفعا يؤدي عاجلا أو آجلا إلى التضخم. العالم ينسى اليوم غضب التضخم الغائب منذ بداية الأزمة، لكنه ربما يعود في فترات ليست بالبعيدة. لن ينخفض العجز المالي إلا إذا عادت الشركات إلى الاستثمار والمواطنون إلى الإنفاق بحيث تتوسع رقعة الاقتصاد ويرتفع التحصيل الضرائبي العام. المطلوب في رأي "كروغمان" عودة الصحة إلى الاقتصادات الوطنية أي تبقى متوازنة في الداخل والخارج كي تصمد أمام العواصف المالية والاقتصادية الآتية من الخارج. هنالك قلق دولي بشأن الدروس التي اقتبست فعلا من الأزمة والخوف من أن نعود إليها كل عشر سنوات، فتتحقق الخسائر الكبرى التي يدفع ثمنها المواطن العادي الذي لم يكن مسببا لها.