18 سبتمبر 2025
تسجيلآخر زيارة لرئيس حكومة تركي إلى بغداد كانت في نهاية العام 2011.. أي يكون مر عليها حتى الآن ثلاث سنوات كاملة. لم يكن هذا ما اعتادته الدبلوماسية التركية منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في العام 2002 حيث اتبعت سياسة القوة الناعمة وقامت بأدوار الوساطة وانتهجت سياسة "صفر مشكلات"، وكل هذا كان يتطلب دبلوماسية نشطة وحيوية وفاعلة وأفكارا خلاقة.غير أن تطورات "الربيع العربي" التي بدأت نهاية العام 2010 فرضت متغيرات لم تكن بالحسبان وتداخلت عوامل كثيرة حوّلت المنطقة العربية إلى بركان متفجر ومرجل يغلي فاضطربت الأوضاع في كثير من البلدان العربية.. ومن لم تصلها نيران الحريق العربي وقعت تحت ضغوط شديدة.وإذا كانت سوريا المثال الأبرز والأول على اختلاط العوامل واضطراب الأوضاع وتلقائيا الامتحان الأول والأصعب أمام تركيا فإن العراق مثل النموذج الثاني الذي أصاب السياسة الخارجية التركية.فالسياسات التي اتبعتها حكومة نوري المالكي في دعم النظام السوري أثارت استياء أنقرة، كما أن محاولات أنقرة أن تكون جزءا من التوازنات الداخلية العراقية ولاسيَّما دعم الفريق المعارض لحكومة المالكي كما في إقامة علاقات مع إقليم كردستان بمعزل عن الحكومة المركزية في بغداد خصوصا في ما يتعلق بملف النفط، كانت من أبرز العوامل التي أفضت إلى توتر العلاقات بين بغداد وأنقرة.وانطلاقا من المثل القائل "رب ضارة نافعة" فقد شكلت غزوة داعش للعراق في شهر يونيو الماضي بداية تحولات في المشهد الميداني ترك لاحقا آثارا على التوازنات والتحالفات الإقليمية.ومن أبرز نتائج سيطرة "داعش" على مناطق واسعة في العراق سقوط حكومة نوري المالكي وتكليف حيدر العبادي بتشكيل حكومة جديدة كانت الدول الخليجية ولاسيَّما السعودية من أبرز المرحبين بها.ولم تتأخر تركيا عن اللحاق بركب المرحبين إذ اعتبرت أن سقوط المالكي هو طي لصفحة سلبية معها.. ومع تشكيل الحكومة العراقية الجديدة تولى إبراهيم الجعفري وزارة الخارجية، وكانت من أوائل زياراته إلى الخارج، إلى تركيا نفسها، فاتحا بذلك صفحة جديدة من العلاقات مع أنقرة.ولم تنقض أيام على هذه الزيارة حتى أعلن عن زيارة سيقوم بها رئيس الحكومة التركية الجديد أحمد داود أوغلو إلى بغداد فأربيل وقد حصلت فعلا يومي 20 و21 نوفمبر الجاري.وهذه الزيارة لا شك تطوي مبدئيا صفحة قاتمة من تاريخ العلاقات بين البلدين وتفترض أن تعيد من جديد بناء ثقة تهاوت خلال الأعوام القليلة الماضية.ولعل من أهم العوامل المساعدة على تحقيق الزيارة الاتفاق النفطي بين بغداد وأربيل وبالتالي توضيح طبيعة التعامل مع أي طرف ثالث ولاسيَّما أنقرة في ما خص الملف النفطي.غير أن الأهم برأيي هنا أن الواقعية تغلبت على طريقة تعامل بغداد وأنقرة مع بعضهما البعض.. فبغداد بعد "هزة داعش" باتت تشعر بالحاجة إلى اتباع سياسات داخلية جديدة تجاه كل مكونات الشعب العراقي تفضي إلى المزيد من التصالح واللحمة الداخلية وهذا ينعكس بالضرورة على العلاقة مع دول جارة.. إذ أن العوامل الداخلية تتداخل مع التأثيرات الخارجية.ومع ذلك، فإن مجرد زيارة داود أوغلو إلى بغداد ومن ثم إلى أربيل لا يعني بالضرورة انفراجا تلقائيا في العلاقات.. فالملفات المحلية والإقليمية مثقلة بالتعقيدات وبالشكوك المتبادلة.. كما أن الظروف غير مفتوحة على أفق حلول قريبة خصوصا مع إعلان أكثر من طرف على أن المعركة في المنطقة طويلة المدى وفي ظل استمرار تأجج اللهب على الجبهتين السورية والعراقية.. وإذا كان العراق ساحة للتقاتل والتنافس الإقليمي والدولي فإن تركيا هي من اللاعبين الذين يقومون بأدوار معينة تزيد أو تخفض من التوتر هنا وهناك وتتصرف وفقا لمصالح تركية يؤمل أن تأخذ في الاعتبار أن للآخرين أيضا مصالح وهواجس مشروعة.