19 سبتمبر 2025
تسجيلمخطئ من كان يعتقد أن الهجوم الذي شنه حزب العمال الكردستاني على مواقع عسكرية للجيش التركي في منطقة تشوكورفا على مقربة من الحدود العراقية، كان مفاجئا. وردة الفعل التي ووجه بها من جانب الحكومة التركية كانت أيضا مبالغا فيها. فقبل شهرين حصل حادث مماثل أوقع 12 قتيلا من الأتراك وقبل هذا حصلت حوادث متعددة وشبه يومية كانت تودي بحياة العشرات من الجنود الأتراك. الوضع في جنوب شرق البلاد أي في المناطق التي تتواجد فيها أكثرية كردية بات منذ أشهر خارج سيطرة الدولة. عناصر حزب العمال الكردستاني تقيم في وضح النهار حواجز على الطرقات بين المدن والقرى وتخطف معلمي المدارس وتقتل جنودا وموظفين. وتقوم بعمليات شبه يومية ضد عربات ومواقع للجيش. قبل يوم واحد فقط من عملية تشوكورفا كان «الكردستاني» يهاجم ناقلة عسكرية ويقتل خمسة من رجال الشرطة ومعهم ثلاثة مدنيين كانوا مارين في المكان نفسه. لذا ليس من مبرر لهذا الغضب التركي المستجد سوى أن عدد القتلى هذه المرة كان كبيرا وبلغ في عملية واحدة 26 قتيلا. تهديد الرئيس التركي عبدالله جول بـ"انتقام كبير" لن يفيد شيئا. كما أن تحذير رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوجان لـ "الصديق والعدو" من أن تركيا لن تحني الرأس لا معنى له. العمليات العسكرية التركية لن تسهم في إضعاف قوة حزب العمال الكردستاني وما يمثله. فقد جرّب الأتراك حتى الآن أكثر من 27 غزوا لشمال العراق وكانوا مرتاحين جدا في عهد صدام حسين حيث كانوا يتوغلون أكثر من خمسين كيلومترا. ومع ذلك لم تتوقف ولم تتراجع عمليات الكردستاني. مأزق تركيا الأساسي أنها لم تستطع حتى الآن مقاربة المشكلة الكردية فيها من زاوية عقلانية ومعاصرة. لم يستطع الأتراك تشخيص المشكلة جيدا لذا لم يستطيعوا إيجاد الحل المناسب. أما إذا كانوا يعرفون حقيقة المشكلة ولكنهم لا يريدون في الأساس الاعتراف بالواقع وإيجاد حل مناسب له فهذه طامة كبرى. المشكلة الكردية موجودة قبل حزب العمال الكردستاني واستمرت معه وهي ستبقى بعده إن لم يوجد حل جذري لها. لم تختلف مقاربات كل السلطات التركية المتعاقبة في نظرتها إلى الواقع الكردي. من مصطفى كمال أتاتورك الذي أسس لمبدأ الإنكار واستئصال الهوية الكردية وعدم اعتبارهم إثنية خاصة بل "أتراك الجبال" إلى الإسلامي عدنان مندريس وكل فترات حكم الجنرالات. وعندما اعتقل زعيم الحزب عبدالله أوجالان في العام 1999 وأعلن التخلي عن العنف وانسحاب مقاتليه من جنوب شرق تركيا إلى شمال العراق وتخلى أيضاً عن شعار الدولة المستقلة والقول بتركيا جمهورية ديمقراطية كانت الفرصة متاحة أمام النظام التركي لإنهاء معاصر لهذه القضية. ومع مجيء حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002 كان الأمل كبيرا بأن ينسحب "النفَس" الإصلاحي على المشكلة الكردية أيضا. لكن ما كان يقدمه الحزب على هذا الصعيد كان نسخة كاريكاتورية مما كان يحدث سابقا. وما حكي لاحقا عن سياسة الانفتاح الكردي الحكومية تحوّل إلى مهزلة وبان أنه غير جدي عند أول امتحان له. ومع الانتخابات النيابية الأخيرة ركب حزب العدالة والتنمية موجة تصعيد الخطاب القومي المتشدد فتراجع أردوجان عن اعترافه بوجود "قضية كردية" عام 2005 وقال إنه توجد مشكلة مواطنين أتراك من أصل كردي وما لبث أن توعد الأكراد بالمزيد من التشدد بالقول إنه لو كان في السلطة لدى اعتقال أوجالان لكان نفّذ به فورا حكم الإعدام. وبعد ذلك مارس النظام التركي سياسة الضغوط على النواب الأكراد فأبطل عضوية أحدهم ولا يزال خمسة في السجون. وعلى قاعدة عمليات حزب العمال الكردستاني كان الحل الأمني هو السائد لدى الدولة فاعتقل المئات بل أكثر من كل من يشتبه به أنه يدعم "الإرهاب" وكان الضحية قادة وكوادر من حزب السلام والديمقراطية الكردي الممثل في البرلمان والعشرات من رؤساء البلديات. لا أحد ينكر أن حزب العمال الكردستاني يستفيد من مناخات الفوضى في الشرق الأوسط وحتى من الدعم الخارجي. لكن المشكلة الأساسية تبقى في الداخل وفي أن علاجها يبدأ من جرأة الاعتراف بالواقع الكردي وممثليه بمن فيهم أوجالان. فالأكراد في تركيا ليسوا "جالية" أجنبية أو مجموعة من "الخارجين على القانون" أو عصابة مسلحة بل هم "شعب" بكل معنى الكلمة يتألفون من 12-15 مليونا لهم الحق بلغتهم الأم وجامعتهم ومدرستهم وإذاعتهم وتلفزيونهم وبقانون انتخابي جديد لا يسرق أصواتهم. وإلا فلن تعرف المشكلة الكردية في تركيا حلا آخر سوى على الطريقة العراقية أو السودانية.