20 أكتوبر 2025

تسجيل

وأد الغلو

22 سبتمبر 2018

تحكي أسطورة يونانية عن قاطع طريق يدعى بروكرست، والذي كان يعيش في منطقة أتيكا باليونان، وكانت له طريقة غريبة في التعامل مع ضحاياه والإجهاز عليهم، فقد كان يستدرج ضَحِيّته ويضيِّفه ويكرمه، وبعد العشاء يدعوه إلى النوم على سريره الحديدي الخاص، ويصفه بإنه سرير لا مثيل له بين الأسِرَّة، إذ كان يتميز بميزة عجيبة، وهي أن طول السرير يلائم دائمًا مقاس النائم أيًّا كان، غير أن بروكرست لم يكن يفسر لضيوفه كيف يمكن لسريره أن يناسب مقاس الجميع رغم اختلاف أطوالهم، حتى إذا ما استلقى الضحية على السرير، بدأ بروكرست بإثبات معجزة سريره، فالقصير يقوم بربطه بإحكام ويشد رجليه ليمطهما إلى الحافة، وأما طويل القامة فيقوم ببتر رجليه ليقطع ما يتجاوز منها السرير حتى ينطبق تماماً مع طوله! وظل هذا دأبه إلى أن لقي جزاءه العادل على يد البطل الإغريقي ثيسيوس الذي أذاقه من نفس الكأس وأخضعه لنفس المـثُلة، فأضجعه على السرير ذاته وقطع رقبته لينسجم مع طول سريره. فأصبح مصطلح البروكرستية أو سرير بروكرست يطلق على أية نزعة تهدف لفرض القولبة على الأشياء أو تنميط الأشخاص أو ليِّ النصوص أو تشويه الحقائق وتلفيق المعطيات وتزوير البيانات؛ لكي تتفق قسرًا مع مخطط ذهني مسبق، إنه القولبة الجبرية، والانسجام المُلَفَّق، وهي أحد طقوس الغُلاة لأي مسلك أو طريقة، لسَوْق العامة لاتباع فرضية تنقصها الأدلة الدامغة، فتحشدهم بالجهل والعاطفة المنفردة بعيداً عن قياس العقل. إن من يتبنى آراء متطرفة حول قضية من القضايا ويحاول إقناع الآخرين بها، هو كمن يشيد صرحًا من الأوهام المزعجة على أساس غير متين من الحجج والبراهين، ويسعى جاهداً لتلفيق التهم لكل من خالف، ومنمطاً لكل من حالف، كارهاً لمحاولات الفهم و الاستدلال، فتكون النتيجة في مخيلته فريقان، مع أو ضد، ما يؤدي نهايةً لانكسار المجتمع، وتنوع العداوات بين أفراده. لذا وجب التنويه حول أساليب الغلاة لحماية السِلم المجتمعي وأيضاً لاحتوائهم بتنويرهم وجدالهم بالتي هي أحسن، كمرحلة أولى من تثقيفهم وزيادة إدراكهم، فكم من ثيسيوس نحتاج؟ لوأد كل غلو منفلت غير قابل للترويض.