29 أكتوبر 2025
تسجيلإن أي نقاش حول دور الإعلام العربي في الانقسامات الطائفية الإقليمية الراهنة يجب أن يأخذ بالحسبان الفصل الذي لم تنطو صفحاته بعد والذي يتتبع التغيرات التي طرأت على هذا الإعلام في أعقاب الربيع العربي. امتلك الإعلام حرية نسبية أفضل في البلدان التي نجحت انتفاضاتها ولو جزئيا في الإطاحة بأنظمة حكمها وبعد أن كان خاضعا لسيطرة تامة من الدولة. كما في تونس ومصر وليبيا. وقد تأسست عشرات الوسائط الإعلامية والقنوات التلفزيونية مباشرة بعد السقوط الكلي أو الجزئي لتلك الأنظمة. وربما كانت إحدى المظاهر الفارقة التي طرأت على المشهد الإعلامي الذي ما زال طور التبدل هو الحضور القوي للسياسة وبالأخص في وسائل البث الدينية. خاصة القنوات التلفزيونية. وبينما كانت تلك القنوات وتحديدا ذات الصبغة السلفية حريصة جدا في عهد الأنظمة السلطوية على عدم التطرق إلى السياسة وإنتاج مواد وبرامج خالية من أي إشارات سياسية. كانت الحكومات في المقابل تسمح لتلك القنوات بالعمل. بل إنها كانت سعيدة في الواقع بسلبية تلك القنوات وما لها من تأثير "تحييدي" على متابعيها. خاصة مقابل وسائل الإعلام الدينية المسيسة والقريبة من الحركات الإسلامية. والمقصود بـ "الأثر التحييدي" هنا هو تحييد المتلقين خاصة الشريحة الشبابية عن السياسة عن طريق تركيز البث الديني على أمور التدين التفصيلية. والحض على البعد عن السياسة. مع التوكيد الدائم على "طاعة ولي الأمر". وهكذا كان العديد من القنوات الدينية يزعم بأنه "لا يتدخل في السياسة" عبر تبني خطاب ديني تربوي يحض على المسلكيات فقط. ويصرف متابعيه بالتالي عن الشأن العام. والواقع أن هذه المقاربة الإعلامية للعديد من القنوات الدينية خاصة السلفية ما قبل الربيع العربي على وجه التحديد. هي سياسية قلبا وقالبا رغم ادعائها بعدم الخوض في السياسة. ذلك أن ابتعادها الواعي عن السياسة وتركيزها على الأمور الفرعية في الدين والطقوس والانهماك بها وإشغال الناس فيها يخدم السلطة بشكل مباشر. حيث يعمل على تجميد شرائح شعبية كبيرة من الاهتمام بالعمل العام. أي أن فعل "التحييد" و"التجميد" الذي كانت تساهم به هذه القنوات هو فعل سياسي في جوهره وينفي ادعائها بعدم الانخراط في السياسة. في سياق ما بعد الربيع العربي وفي عدد من الدول التي شهدت تحطيما لأسقف حريات التعبير المنخفض والتحرر من خوف القبضة الحديدية للدولة تسيست الكثير من القنوات التي كانت غير مسيسة بالأمس خاصة في مصر (في مرحلة ما قبل السيسي). وتحالفت القنوات الأهم بينها مع الأحزاب السلفية التي تأسست بسرعة هي الأخرى أيضاً وانخرطت في السياسة. وهيمنت السياسة والتسيس على الشاشة في انقلاب مفاجئ على الماضي القريب. أثر هذا "التسيس" الكاسح على سائر البث الديني تقريبا وكان يجري في وقت كانت المنطقة تغذ السير فيه صوب تموقع طائفي مكشوف بعد اندلاع الثورة السورية. وانخراط إيران وحزب الله في دعم نظام الأسد بلا هوادة. والواقع أن الفوضى التي عمت المشهد الإعلامي بعد الربيع العربي فاقمت من المشاكل التي طالما عانى منها الإعلام الإقليمي (العابر للحدود الوطنية). كغياب هيئات تسن الضوابط والقوانين ومواثيق الشرف المهني والأجهزة القضائية التي توازن بين الحريات وحقوق الأفراد. وعلى خلفية هذا المشهد الإعلامي المنفلت من أية ضوابط انطلقت العديد من القنوات التلفزيونية لتحرض على الكراهية الطائفية وتدعو إلى إقصاء "الآخر" عبر إثارة مرويات تاريخية ومن خلال الخوض في معارك دينية جرت في الماضي دون أن تتعرض لملاحقات قضائية. لكن في سياق ما بعد الربيع العربي برزت حالة من "فوضى الحريات" اختلطت فيها الشرعيات الثورية. بالانتخابية. بالمسلحة (كما في ليبيا). وهو الأمر المتوقع حدوثه إثر سقوط كل نظام سلطوي. وكان الأمل (وما زال) منعقدا على انبعاث "حيز عام" صحي (تعددي. وديمقراطي. ونقدي) بعد مرحلة الإطاحة بالدكتاتورية في كل من حالة من حالات الربيع العربي. عوضا عن ذلك. وعن اشتغال نظرية هابرماس التي تفترض احتلال القوى النقدية والديمقراطية لأي حيز عام يتم تحريره من سلطة الدولة. فإن الفراغ الذي برز جراء الانحسار السريع والمفاجئ للدولة السلطوية العربية احتله عموما الإسلاميون بسياساتهم وخطابهم وإعلامهم. لم تشتغل (بعد) طروحات هابرماس الكلاسيكية حول "الحيز العام" في بلدان ما بعد الربيع العربي. إذ تقوم على افتراض أن يشجع تشكل حيز عام على بروز التفكير الحر في إطار سياق علماني محدد. وذلك بالطبع بعد مواجهة قوة الدولة القمعية وارغامها على التراجع عن احتلال الحيز. فقد كشف الربيع العربي عن دينامية أخرى مقابل تلك الدينامية المفترضة. تمثلت ببساطة في استبدال سلطوية الدولة التي أطيح بها بسلطوية الخطاب الديني. وعوضا عن خلق فضاء للتفكير الحر. وقع الحيز العام في دول عربية مثل تونس ومصر وليبيا (وغيرها وإن بدرجات متفاوتة) فريسة لتدين زاحف. ورغم أن منسوب التدين دائما ما كان عاليا قبل تغيير الأنظمة إبان الربيع العربي. لكن طبيعته كانت تميل إلى البساطة وكانت أيضاً بعيدة عن التسيس (العفوي. أو المقصود). بيد أن الانتصارات الانتخابية التي سجلها الإسلاميون منحتهم قوة شعبية غير مسبوقة أسهمت في سيطرة طاغية للإسلاموية. كما دفعت إلى تحول في شخصية الإسلاميين أنفسهم فامتلكوا جسارة غير معهودة وأصبح خطابهم أكثر جراءة من ذي قبل. وتجسد كل هذا من خلال صعود وهيمنة الإعلام الديني وترسيخ عشرات القنوات الدينية النافذة وخلق فضاء مؤات لتأسيس المزيد منها. فالإسلاموية التي تمخض عنها الربيع العربي ليست إلا مرحلة متقدمة لعملية تخلق استمرت سنوات طويلة وربما جاز لنا تسميتها بـ "الفضاء الإسلاموي الإقليمي". لقد نجم هذا الفضاء عن عملية طويلة المدى شهدت غرس ممارسات وخطاب وأنشطة وتدين في داخل جسم المجتمع العربي من جانب الإسلاموية وإعلامها. وربما كانت أهم التغيرات البنيوية التي نجحت الإسلاموية في أحداثها داخل المجتمع هي التأسيس لشرعية دينية جديدة يرجع إليها في الحكم المعياري على السلوك الاجتماعي. الفردي والجماعي.