02 نوفمبر 2025

تسجيل

تركيا وتكرّر التاريخ

22 سبتمبر 2013

كانت تركيا هي الحاكمة في العهد العثماني في المنطقة.كانت على امتداد قارات ثلاث لأكثر من أربعمئة سنة. وعلى قارتين لأكثر منذ ذلك. لكن مع نهاية الحقبة العثمانية كانت الضغوطات من الداخل والخارج. ثورات في البلقان والقوقاز والبحر الأسود وانتفاضات في المنطقة العربية ومؤامرات في الداخل بين السلطان وآخرهم جمعية الاتحاد والترقي التي قادت البلاد إلى الكارثة الكبرى في الحرب العالمية الأولى. ومن الخارج كانت العين الاستعمارية تسعى لتقسيم الدولة ونجحت في ذلك. ومن بعد ذلك انكفأت الدولة الوريثة، الجمهورية التركية، على نفسها ورفع مصطفى كمال أتاتورك شعار "سلام في الوطن وسلام في العالم" لترتيب البيت الداخلي. مع ذلك لم تغادر تركيا دورها في أن تكون جزءا من المنطقة مع اختلاف جوهري وهو أنها لم تنغمس في الصراعات الداخلية بل مارست دورا إقليميا وعالميا مؤثرا من خلال الأحلاف والتجمعات التي انتمت إليها وأهمها حلف شمال الأطلسي. واستمر هذا الدور مع انتهاء الحرب الباردة إلى أن جاء حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في العام 2002 و...انقلبت الصورة وباتت تركيا أمام متغيرات جذرية وبتنا نحن أيضا أمام تركيا جديدة . في حوار قبل أيام قليلة مع صحيفة حرييت التركية قال وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو إنه يريد رؤية المجتمعات في البلقان والقوقاز وآسيا الوسطى والشرق الأوسط تدخل عصر الحداثة وأن تكون تركيا هي مركز هذه العملية التحديثية. ولم يخفِ الوزير التركي صاحب نظرية "العمق الاستراتيجي" التي انهارت بعد سنوات قليلة فقط على وضعها، أن طموحه كان ولا يزال ولن يتخلى عنه هو في أن تكون تركيا رائدة ومؤسسة نظام إقليمي، ولها دور عالمي وعندما قيل له إن خصومه يسمون ذلك عثمانية جديدة قال "إن التسمية هم أطلقوها وليس هو وبمعزل عن التسمية فهو ماض في سعيه لتحقيق رؤيته وحلمه". لا أحد يعترض على أن تكون شعوب هذه المناطق حديثة ومتطورة فهذا هدف كل مجتمع، لكن السبب الذي انهارت بموجبه الدولة العثمانية هو الذي يجعل الاعتراض الحالي على السياسات الخارجية التركية مشروعا ومبررا وهو أن لكل مجتمع هوية وخصوصية وثقافة ولغة يريد أن يتمتع بها وفقا للحق الإلهي والطبيعي ووفقا لما تراه نخبه. وما يحصل مع سياسات أو رؤى تركيا الحالية أنها تريد أن ترسم شرق أوسط جديدا وفقا لما هي ترسمه وأن تكون هي طليعته وقائدته. وليس هذا كلاما من عندياتنا أو تحويرا أو تحريفا لكلام ما، بل هو بالنص الحرفي ما قاله داود أوغلو في البرلمان التركي في أواخر شهر أبريل الماضي. وقد وصف رئيس مجمع التاريخ التركي السابق ممتازير توركينيه وهو من المقربين من حزب العدالة والتنمية بأن داود أوغلو كان يتحدث كما لو أنه وزير لخارجية الدولة العلية العثمانية وليس وزيرا لخارجية تركيا. ورغم كل الاعتراضات شبه الشاملة لمختلف الأفرقاء السياسيين في تركيا ولعدد كبير من الكتّاب المقربين من حزب العدالة والتنمية على الطريقة التي تدار بها السايسة الخارجية التركية فإن الاعتراض أكبر على الأهداف التي تسعى لشطب الآخرين من عرب وفرس وبلقانيين من أي دور في المنطقة واعتبار تركيا هي الوحيدة المؤهلة لقيادة المنطقة بل المثلث الجغرافي الذي يحيط بها. أدت هذه السياسات الاستعلائية غير الواقعية والمرفوضة منطلقاتها الأيديولوجية من جميع شعوب المثلث إلى تكسّر السياسة التركية وليس فقط تعثرها. فخرجت المخاطر والتصدعات من داخلها بسبب الذهنية التي لا تريد الاعتراف للأكراد بحقوقهم ولا تسعى بشكل جدي إلى إقامة منظومة حريات حقيقية ولا استقرار اجتماعي يلحظ خصوصيا المكونات الاجتماعية.ومن لا يمكنه إرساء العدالة والاستقرار في الداخل لا يمكنه أن يخرج على محيطه الخارجي بنظريات تذكّر بفترات الهيمنة قبل قرن من الآن. وما يؤسف له أن واضعي السياسة الخارجية التركية لا يزالون يكابرون حتى الآن ويرفضون الاعتراف بأنها سياسات غير واقعية وإلغائية للآخرين وفي النهاية تجد تركيا نفسها وحيدة ماضية إلى نهايات مثقلة بالأخطار داعين مسؤوليها ومنظّريها إلى مراجعة واقعية ونقدية. ومع أن الأمل ليس كبيرا فإن عودة أيديولوجيي السياسة الخارجية، كما الداخلية، عن أخطائهم ولو متأخرين أفضل من المكابرة والاستمرار بالتالي في النزول السريع إلى الهاوية، وحتى لا تتكرر تجربة "الاتحاد والترقي" مع "العدالة والتنمية" خصوصا أننا على أبواب الذكرى المئوية لانهيار السلطنة و... العثمنة.