17 سبتمبر 2025
تسجيلليس هناك من شك في أن هذا العالم منذ تأسيس الأمم المتحدة، واجتماع دول العالم تحت مظلة هذه الهيئة لمنع قيام حروب عالمية كارثية، والتعاون بدلاً عن ذلك في تنمية شعوبها وتحقيق مصالحها بما لا يضر بمصالح الآخرين، لا تسير وفق تلك الرغبة تماماً. إذ المفترض من تلك الهيئة أن تقوم بهكذا نوعية من الأعمال والمهام، لكن المفترض والواقع أمران مختلفان، بل بدا الأمر يتضح أكثر فأكثر، منذ أن حدث الاختلال في ميزان القوى بانهيار الاتحاد السوفييتي أوائل التسعينيات من القرن الماضي، والانفراد شبه التام للولايات المتحدة بقيادة العالم أو التأثير البالغ على كثير من السياسات والتوجهات في العالم. ما أثارني في كتابة هذا الموضوع - وهو ليس بالأمر الجديد عليكم - فيلم إيرلندي شاهدته الأسبوع الفائت بعنوان "حصار جادوتفيل The" siege of Jadotvill" ويحكي قصة سرية ايرلندية تم ارسالها كقوات حفظ سلام في الكونغو في أوائل الستينيات من القرن الفارط، بعد أن عاث الاستخراب البلجيكي في أرضها كل فساد، ولم يخرج إلا وقد أناط مسؤولية استكمال التخريب ونهب ثروات البلاد للعسكر – على عادة أي حكم عسكري – في البلدان النامية والفقيرة. قصة الفيلم باختصار أن السرية تتورط في أحداث الكونغو دون أن يكون لها ذنب فيها، بل كان أفراد السرية معرضين للموت عدة مرات حتى خرجت عائدة إلى ديارها دون تحقيق مهامها، فقد كانت الفوضى أكبر من أن تسيطر عليها الأمم المتحدة فضلاً عن تلك السرية. ما يهمني من الفيلم أن أحداثه تبين لك كيف كان العالم يُدار في تلك الحقبة، وكيف أن التنافس بين القطبين الكبيرين آنذاك، الأمريكان والسوفييت، دفع بالهيئة الأممية لأن تعاني كثيراً جراء ضغوطهما إلى جانب ضغوط قوى غربية أخرى، كانت تتحرك في تلك الهيئة وفق مصالحها هي وإن كانت على حساب مصالح دول أخرى!. كانت الأمم المتحدة تحاول فرض رأيها وقوتها عبر أمينها العام في تلك الفترة، وكان هو السويدي "داغ همرشولد" بعد أن تم اغتيال الرئيس المنتخب "لومومبا" في مؤامرة تبينت لاحقاً تفاصيلها، ودور الاستخبارات الأمريكية والبلجيكية فيها، وبعد أن وجد الأمين العام كذلك أن الأمور قد انفرط عقدها في الكونغو، وتكرار حوادث ضد قوات الأمم المتحدة، وبعد أن عاث العسكر والانفصاليون هناك فساداً وإهلاكاً للحرث والنسل، بعد كل تلك الحوادث يقرر التدخل والقيام بنفسه بزيارة الكونغو. لكن وقع ما لم يكن بالحسبان، إذ سيتبين لك كيف أن هناك قوى مؤثرة هي التي تحرك الأحداث في العالم في غالب القضايا، وإلى يوم الناس هذا، إذ ما إن يقرر الأمين العام للأمم المتحدة التدخل بنفسه في أزمة الكونغو، تجده يموت في طريقه في حادث سقوط الطائرة الخاصة التي كانت تقله مع زملائه وحرسه الشخصي في وسط أدغال أفريقيا، ويختفي معه الكثير من آثار الجريمة، لتظل حادثة السقوط لغزاً إلى اليوم. وقد تتساءل عن سبب هذا التهافت الغربي تحديداً على دولة أفريقية، ما خرج الاستخراب البلجيكي عنها، إلا وهي من أفقر الدول وأقلها تعليماً ونمواً في أفريقيا. السبب كما اتضح لاحقاً في تلك الحقبة هو الثروات الطبيعية الهائلة للكونغو، لاسيما اليورانيوم، المادة التي تعاونت الولايات المتحدة مع بلجيكا لحماية مصادرها وعدم تأثرها بأي تطورات سياسية وعسكرية في تلك البلدة، حيث استمر النهب تحت رعاية عسكر الكونغو وآلاف من المرتزقة الكونغوليين وغيرهم من الأفارقة، الذين كانوا يعملون تحت إشراف عسكريين فرنسيين مرتزقة، كان لهم دورهم المؤثر في كثير من الانقلابات العسكرية في أفريقيا. ذلك التعاون الغربي على حماية مناجم اليورانيوم والذهب وغيرها من الثروات المعدنية، إنما أيضاً خشية من أن يسيطر السوفييت أو حلفاؤهم في تلك الدولة عليها، خاصة بعد أن ظهر الرئيس لومومبا ورغبته في تحرير بلاده من الاستخراب والوصاية البلجيكية، وإنهاء عمل كل الجهات الغربية على شكل شركات تنقيب عن المعادن وغيرها، ما أثار مخاوف الأمريكان والبلجيكيين، فكان قرار التخلص منه واغتياله، وهذا ما تم !. هكذا إذن كان الغرب، وهكذا هو إلى اليوم، قوته السياسية والعسكرية في خدمة اقتصاده وتجارته، إن حماية مصالحهم فوق أي اعتبار، لا تقل لي مبادئ وأخلاقا وقيما، فعند الثروات المعدنية واستغلالها لمصالحهم، يتجرد الغرب من كل تلك المبادئ والقيم، ولو أدى ذلك إلى خراب البلدان ودمارها وهلاك ملايين النفوس البشرية، والحروب المستمرة في بقاع معينة من العالم، دليل واضح لا يحتاج لكثير شروحات وتفصيلات. انظر حولك هنا وهناك لاسيما في مناطق النزاعات والأزمات في الدول الفقيرة والنامية، ستجد أن كثرة الانقلابات العسكرية وعدم الاستقرار السياسي أو الحروب، إنما لتكون مظلة للتغطية على أمور أكبر تجري على أراضيها وساحاتها، والشركات الغربية المتوحشة عابرة الحدود، تلعب دوراً كبيراً ومؤثراً على مجريات كثير من الأحداث في العالم. إن كان هناك قديماً استخراب، أو ما يسمونه استعمارا مباشرا من دولة لدولة أخرى، فإنه اليوم تغير في الشكل فقط، ليستمر هذا الاستخراب لكن على أيدي أبناء البلد نفسه، على شكل انقلابات عسكرية في غالب الأحوال، ذلك أن اتخاذ القرارات الاستراتيجية الكبيرة تكون أسهل بكثير في ظل حكم العسكر، وغالبية تلك القرارات تدور حول ثروات البلاد، التي يمكن التفاوض بشأنها وبيعها أو تأجيرها لمدد طويلة بكل سهولة ويسر، في غياب شبه تام للشعوب، التي تكون إما مخدرة أو منهكة، والأمثلة من هنا وهناك أكثر من أن نحصيها، بل ربما هي أوضح من أن نذكرها. [email protected]