15 سبتمبر 2025

تسجيل

الإسلام واحترام التعددية الدينية

22 أغسطس 2014

لقد أظهر الإسلام منذ ظهوره تفرقة واضحة ، شديدة الوضوح بين عبادة الأصنام من الوثنيين، وهذه كانت حالة معظم القبائل العربية في العصر الجاهلي، أي ما قبل الإسلام، و بين «أهل الكتاب»، أي أعضاء الجماعات اليهودية و المسيحية ( من عرب و غير عرب) ، المزودين بوحي كتابي توحيدي. و كان النبي محمد صلى الله عليه و سلم ،يأمل أن يعتنق يهود المدينة الدين الإسلامي الجديد، ولم يدخر جهوده في هذا الاتجاه: كانت الصلاة موجهة نحو القدس، ويعترف بالتوراة كتاباً مقدساً، والأعياد و الطقوس الدينية قائمة على التوافق، ويحمل القرآن طابع الدعوة إلى أبناء إسرائيل إلى الاهتداء إلى الدين الجديد(سورة البقرة: 39). وككل ثورة دينية وسياسية كبرى، كان لابد أن تسبقها الدعوة، ولقد اتخذت الدعوة المحمدية في البداية طابعاً دينياً، الذي يتمثل في نشر العقيدة الإسلامية، ثم ما لبثت أن اكتسبت الطابع السياسي. وبذلك أصبحت الدعوة المحمدية في آن واحد نشر الدين الإسلامي وتأسيس الدولة والمجتمع المديني على أساس عقيدة الإسلام. ومرت الدعوة المحمدية كما هو معروف بمرحلتين رئيسيتين في مسار تطورها، مرحلة بمكة ومرحلة بالمدينة. لقد شكلت مرحلة الهجرة إلى المدينة تطوراً نوعياً في الدعوة المحمدية على أكثر من صعيد، ولكن يظل أهمها مسألة تأسيس الدولة بالمدينة، أو قيام دولة الرسول بالمدينة وظهور المجتمع المديني للوجود مع هذه الدولة في آن معاً، وانتقال الدعوة المحمدية من الدفاع إلى الهجوم، حين عبر الرسول محمد بقوله" الآن نغزوهم ولا يغزوننا".إن المجتمع المديني الجديد هو مجتمع تعددي، حيث تتعدد فيه علاقات الانتماء إلى الدين، وحيث أصبح الناس الذين يعيشون فيه تحكمهم علاقات انتماء جديدة، أنها علاقات انتماء إلى" الوطن" الذي يحتم على كل المندمجين فيه رابطة الولاء الوطنية، وما يترتب عليها من حقوق الموالاة الوطنية، ومن تضامن المسلمين والمؤمنين على قاعدة تحقيق الوحدة الوطنية، في نطاق مواجهة التهديدات والأخطار الخارجية التي تهدد سلامة الدولة المحمدية في المدينة، التي هي في حالة حرب مع قريش. و يروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما هاجر إلى المدينة وجد فيها من اليهود العدد الكبير، فكان أول أمر قام به أن عقد بينه وبينهم ميثاقا دعا فيه إلى احترام عقائدهم، وتقديس شعائرهم، وتولي الدولة حمايتهم، وأن يكونوا هم مع المسلمين قوة ترد الأذى.والرسول عليه السلام له مواقف خالدة يتمثل فيها المثل الأعلى في المعاملة الرائعة لأهل الكتاب كحضوره جنائزهم، وزيارتهم وإكرامهم.من ذلك ما أكدته الصحيفة:" وإن المؤمنين بعضهم موالي لبعض دون الناس"، وإن بينهم النصر على كل من دهم يثرب".أما الطرف الثاني في المعاهدة، هم اليهود فقد أوضحت الصحيفة موقف المسلمين من يهود المدينة، من خلال تأكيدها على احترام العقيدة الدينية، وعلى اعطاء اليهود حريتهم الدينية في المدينة " لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم ". وفي هذا الموقف، لم يشترط دستور المدينة على اليهود الدخول في الاسلام مقابل بقائهم في المدينة، بل ان المعاهدة تنص على التعددية، وبالتالي تؤكد على قبول التعايش السلمي بين المسلمين واليهود. ولما كانت المعاهدة تنص على أن المسلمين في حالة حرب مع قريش، فقد قررت الصحيفة عدم جواز لليهود من أهل يثرب أن يساعدوا قريش" وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها" كما أكدت الصحيفة على إلزام اليهود بموالاة المسلمين وعدم التآمر عليهم، مثلما أفسحت لهم في المجال الدخول في الاسلام للراغبين منهم" وأنه من تبعنا من يهود فلإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر عليهم". فالصحيفة أشركت اليهود في الدفاع عن المدينة بدون تفرقة، وبما أن اليهود في حالة تبعية للمسلمين في سياق الحرب ضد قريش، فإنه يباح لهم أن يجلسوا على نفقة اشتراكهم مع المسلمين في الحرب"وان اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين".و إن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم إن بينهم النصر على من حارب هذه الصحيفة، وإن من بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم".تمثل الصحيفة دستوراً وضعياً للمجتمع المديني الوليد، وللدولة المحمدية، سواء بسواء. وهي بمنزلة نظام داخلي لجماعة المؤمنين والمسلمين في شؤون الجنايات والحرب خاصة، من جهة، ومعاهدة بين الرسول وبين اليهود من جهة ثانية" معاهدة حربية بالأحرى"، وهي تمثل في جانب ثالث " عقدا اجتماعياً تأسست عليه دولة الدعوة المحمدية، باعتبارها عقداً حربياً على حد رأي الدكتور محمد عابد الجابري.أما فيما يتعلق بالمسيحيين في جملتهن ، فقد تمتعوا بوضع أكثر ملاءمة بما لا يقاس من وضع اليهود. ويرجع ذلك إلى أسباب عديدة، منها اتسام ردة فعلهم على ظهور الإسلام باللين والاستلطاف نسبيا في عهد الامبراطورية العربية الإسلامية الناشئة، فأفادوا من ذلك كثيرا (سورة المائدة: 82-84).و بالفعل لم تظهر أية مقاومة مسيحية مسلحة في شبه الجزيرة العربية، في وجه نشر الدين الإسلامي. فضلا عن أن المسيحية، لم تكن تبرز في ذلك العصر، في شبه الجزيرة صبغة دين سابق للقومية .فقد كان المسيحيون، وقد أنهكتهم السيطرة البيزنطية و أثارت سخطهم تدخلات البابوية- القيصرية في بيزنطة التي كانت تمارس باسم العقيدة «الصحيحة» و النظام بعكس مراتبية القائلين بالطبيعة الواحدة، يتوقون للانتقال إلى حكم غير مسيحي يستطيعون أن يأملوا فيه استقلالاً ذاتياً في شؤون دينهم و إدارة داخلية لطائفتهم. ومن جانب آخر كان الضغط الضريبي الذي أخضعوا له في الإمبراطورية البيزنطية، يساهم هو الآخر، في أن يجنبهم أي خوف من تغيير الحاكم. و هكذا فإن ميشيل السوري، بطريرك أنطاكيا اليعقوبي، سوف يحتفل سنوات عديدة فيما بعد باقتراب الجيش الإسلامي، واجداً فيه الغضب الإلهي على الإمبراطورية البيزنطيةالـ «مهرطقة» و الجائرة.ويمثل اتفاق نجران نموذجاً للعلاقة الحسنة بين المسلمين و المسيحيين . فقد شاركت مدينة نجران، بمحض إرادتها في المجهود الحربي للمسلمين، ولم يتم فتحها حرباً، و لم تكره الطائفة المسيحية فيها على دفع الجزية كسائر الطوائف المسيحية غير المسلمة الأخرى. و على ما يبدو إن هذا الاتفاق المعقود في عام 10 هجرية مع المسلمين قد جرى على قدم المساواة بمراعاة مصالح الطرفين. في مقابل دفع ضريبة معقولة فقط و بعض التسهيلات ( إعادة خيول و أعتدة) للجيش الإسلامي في حالة حرب مع اليمن، كفل عهد نجران حماية الأمة للمسيحيين و لم يفرض أي قيد على حريتهم في العبادة، و أكد بصورة خاصة، على تحديد خطي من الرسول نفسه ألا تحل بهؤلاء المحميين، الذمّيين، أية «مهانة».يحتوي الدين الإسلامي على نوازع إنسانية شفيفة من بينها حرية العقيدة، والإسلام بنى مبدأ التسامح الديني على أساس أن الأديان السماوية بقضها وقضيضها تنهل من منهل واحد كما في قوله تعالى: "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا، والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه"( الشورى: 13).ويحث الإسلام أيضاً المسلمين على وجوب الإيمان بكل الأنبياء صلوات الله عليهم باعتبارهم أشقاء متحابين، من ذلك قوله: "قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون" ، واحترام شخصيتهم، وأن يتعاملوا مع أتباعهم بالمعاملة الحسنة، كما أوجب على الدولة الحاكمة أن ترعى أماكن عبادتهم وحقوقهم وكرامتهم، وأن تعمل على صيانة مستقبلهم، وتكفل الحياة الهانئة الرغيدة لهم لا يشوبها اضطراب وقلق. وقد ترك الإسلام الاختيار للإنسان أن يصطفي من الأديان السماوية ما يروقه بعد أن وضحت معالمه فقال الله تعالى: " لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ " (سورة البقرة، الآية 256). وقال عز وجل: "لكم دينكم ولي دين" (سورة البقرة، الآية 256.) وهذا تأكيد على مدى إيمان الإسلام بالتعددية الدينية، وبحرية المعتقد الديني، حيث ظل رسول الله ومن بعده الخلفاء الراشدون، ومعظم الحكام المسلمين الذين تبوأوا قيادة الدول الإسلامية على هذا الطريق، أي طريق الرحمة الإلهية. .