13 سبتمبر 2025

تسجيل

الثورة السورية الكاشفة

22 أغسطس 2012

في الوقت الذي تحتفل فيه شعوب الربيع العربي بأعيادها وهي تتنسم عبير الكرامة والحرية التي منّ الله بها عليها بعد إسقاط رموز الطغيان والاستبداد، مازالت سوريا تعاني من قمع نظام أدمن السلطة وعشق القوة لدرجة أنه قد بات يعتبر أن تخليه عما في يديه استجابة لمطالب الناس بالتغيير هو مما يستحيل عقلا، وهو لهذا يهدي العرب والمسلمين في عيدهم صور القتل لأبناء شعبه والدمار لوطنه، الأمر الذي يشعر المحتفلين أن فرحتهم لم تكتمل ولن تكتمل في ظل وجود مثل هذا النظام على رأس الحكم في سوريا. ولكن الثورة في سوريا رغم ما تعانيه من جراء هذا النظام قد أضاءت الكثير من مساحات الفهم وكشفت العديد من المواقف التي لم تر بمثل هذا الوضوح من قبل. - فقد كشفت الثورة السورية عن ضيق أفق المؤدلجين من القوميين العرب، ممن حبسوا أنفسهم في إطار مقولاتهم الأيدلوجية ولم يمانعوا في أن يستمر سيناريو المذابح والقتل "لكي لا نفقد نظاما عروبيا ممانعا" (بزعمهم)، وكأن ضريبة بقاء الممانعة أن يباد الشعب السوري بأكمله، أو كأن ثمن المقاومة أن تسفك دماء السوريين بديلا عن دماء من يحتلون أرضهم. هؤلاء المؤدلجون من غلاة القوميين مازالوا يراهنون على أن ثورات الربيع العربي ما هي إلا ترجمة لمخطط الفوضى الخلاقة، الذي تتحكم بموجبه أمريكا في كل ما يجري في المنطقة، وترسم خيوط مؤامرة تحيط بكل الأنظمة الممانعة والمقاومة، لتحبط مسعاها الحميد لإسقاط الكيان الصهيوني الغاصب. -كشفت الثورة السورية أيضا عن سطوة المصلحة القُطرية الضيقة حتى لدى الدول العربية التي كانت تلوم الغرب في الماضي بحجة أنه لا يسعى إلا لخدمة مصالحه، فإذا بهذه الدول حفاظا على مصالحها هي الأخرى تؤثر الصمت وتتحرك ببطء هو أقرب إلى الجمود إزاء ما يجري في الداخل السوري من مذابح، أو هي ترفع لواء عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، تماما كما حدث خلال العشرية الدامية في الجزائر حين تردد العرب وتقاعس المسلمون، ودفع الشعب الجزائري في النهاية الثمن غاليا وباهظا من دماء أبنائه. -هتكت الأزمة في سوريا ستر الطائفية البغيضة، وبينت معدن الحركات السياسية التي تعكف على خدمة مصالح طائفية، وتوظف لهذا الغرض كل أنواع الشعارات، فالطائفة عندهم مقدمة على الدولة، والمذهب مقدم على الديانة. ورغم ذلك فإنهم يتسترون بعبارات المقاومة وينصبون أنفسهم أنبياء للممانعة والصمود. أظهرت الثورة السورية إفلاس هذه الحركات، وضعف الأساس الأخلاقي لمشروعها الممانع، وبينت أن مشروعها ما هو إلا توكيل لقوى إقليمية تعطيها الأوامر بالتحرك وقت أن ترى أن التحرك في مصلحتها وتغل أيديها عن الحركة عندما لا تكون المقاومة في مصلحتها. -كشفت الثورة فريقا من المحللين والمثقفين ممن قبلوا بتزييف الواقع الذي يحدث أمام أعينهم، ويسموه بغير اسمه، فعند هؤلاء فإن الثورة السورية ليست بثورة، وإنما هي تمرد أهوج وانفعال شعبي غوغائي بلا نتيجة سوى الدمار الذاتي، وعندهم أن الدماء الطاهرة التي سالت وتسيل في سوريا إنما أسالها النفط والجهل والتعصب الديني. هؤلاء وأمثالهم يدينون الواقع لأنه لم يجر وفق إرادتهم، ولم تسر أحداثه وفق نظرياتهم، فهم ينكرون أن ما يجري على الأرض ثورة فقط لأنهم لم يتعلموا أن تكون الثورات هكذا في الكتب التي قرأوها وحشوا بها عقولهم. -كشفت الثورة السورية أيضا عن عجز معارضة الخارج، التي لا تعرف الداخل السوري إلا بالقدر الذي سمح به ابتعادها عنه، مجموعة المثقفين والأكاديميين الذين انشغلوا بخلافاتهم النخبوية في منفاهم فيما الداخل يحترق، وآلة النظام العسكرية تأتي على الأخضر واليابس، والمعارضة التي لم تحسن الحديث باسم ثورة الشعب السوري ولم تحسن تمثيلها، وتحدثت عن هموم الداخل وفقا للمفردات التي يريد الغرب أن يسمعها، وقدمت من الحلول ما يسمح به الغرب الذي يستضيف مثل هذه المعارضة ويحدد لها السقف الذي لا يجب أن تتعداه في معارضتها وفي اقتراحاتها.   -كما تقف الثورة السورية شاهدة على الواقعية السوداء للسياسة الدولية، والتي لا تعترف كثيرا بقيم مناصرة المظلوم، ولا تراوح مكانها كثيرا عندما يتعلق الأمر بتوازنات نظام دولي لا يعبر عن العدالة في شيء ويعطي دولا لا تستحق التمييز حق الاعتراض على إرادة المجتمع الدولي بأكمله، على الرغم مما يتسبب فيه هذا التمييز من مشكلات على مستوى السياسة العالمية والإقليمية. -كشفت الثورة السورية عن أوهام الهيمنة التي تصور البعض أن الولايات المتحدة قادرة على أن تمارسها في عالم أحادي القطب تأتي هي على رأسه. فمنذ قيام الثورة السورية ونحن إزاء دولة عظمى لا تستطيع أن تخضع لإرادتها أطرافا أخرى تعارض هيمنتها بكل جرأة، وتتحدى قراراتها المرة تلو المرة، وترفض أن تنصاع لما تقدمه أمريكا على أنه تفضيلاتها السياسية وخياراتها الإستراتيجية، ولذا لا غرابة في أن تكون الثورة السورية عاملاً محددا لشكل النظام الدولي في مرحلة ما بعد سيادة القطب الأمريكي الأوحد، فأمريكا بعد الثورة السورية ربما لن تكون كما كانت قبل نشوبها. -وأخيرا وليس آخرا فقد كشفت الثورة السورية عن الالتباس في المواقف والارتباك الذي يسود مواقف الدول الكبرى التي لم تحسن قراءة الأزمة منذ بدايتها، وخضعت للعديد من التهويل بشأن طبيعة الأطراف التي تقوم بمعارضة النظام، وترددت كثيرا في تحديد أي الأطراف تدعم، فبدأت بمؤازرة المجلس الوطني السوري، ثم لم تلبس أن أدركت عجزه عن التأثير على الأطراف الداخلية التي تقود النزاع الفعلي ضد نظام الأسد، فبدأت في عقد محادثات مع أفراد من الجيش الحر للتعرف على إمكاناتهم ودراسة كيفية مساعدتهم. وهكذا فإنه باستمرار الثورة السورية تتزايد الخسائر، وترتفع أرقام الضحايا، ولكن في الوقت نفسه ينجلي المزيد من الحقائق، وينكشف العديد من المواقف، الأمر الذي يفصح بشكل لا لبس فيه بأن الثورة السورية سوف تكون ذات تأثير حاسم في تحديد شكل المنطقة وربما أيضا النظام الدولي حال نجاحها في الوصول إلى غايتها النهائية، من تحقيق إرادة الشعب السوري، واستعادته لزمام أموره، وحقه في تقرير مصيره إزاء نظام فاق في بطشه بشعبه كل ما فعله به الميراث الاستعماري البغيض.