14 سبتمبر 2025

تسجيل

رفعت الدهشوري

22 يوليو 2014

كان رفعت حسن الدهشوري، تلميذا بمدرسة المعلمين الأولية بشبين الكوم (مصر)، وكان مستواه الدراسي متدنيا أثناء الدراسة وبعد التخرج. والده حسن أفندي الدهشوري (سكرتير المدرسة)، وهو رجل متحرك ويعرف من أين تؤكل الكتف، فهو إلى جانب كونه سكرتير المدرسة فهو أيضاً رئيس لجنة المشتريات. ويعلم الله كم بذل من جهد حتى تخرج ولده، وفور تخرجه زوَّجه وبعد أربع سنوات نقل إلى الإسكندرية. ( 2 )وفي الإسكندرية حدد هدفه كي يصبح ناظراً لمدرسة أولية.. أنْفَق من عمره ستة عشر عاماً معلماً أولياً وكانت تقديراته خلال هذه الفترة هابطة، ولكن في العامين الأخيرين -1952 و1953- حصل على تقدير ممتاز ورقي إلى ناظر وبذلك حقق أمل والده (لأن وظيفة الناظر وظيفة كلها مكسب). ( 3 )جمع رفعت المال بكافة الوسائل غير المشروعة وبألاعيبه الخاصة استطاع في خلال سنوات معدودات أن يشتري أراضي وعقارات وأثث لابنته المخطوبة شقة ومثلها لولده الحاصل على دبلوم الصنايع ويكمل دراسته في ألمانيا (كمنحة). وكانت طريقته في تجارته الجديدة أن يشتري العقار قديماً أو آيلا للسقوط فيرممه أو يبنيه من جديد ويبيعه، ومن الطرائف التي تحكى عنه أنه اشترى مسجداً على أنه منزل، وأراد هدمه، ولكن أهالي الحي وقفوا له بالمرصاد وكسبوا القضية واستردوا المسجد، ولكن بدون الأبواب الخشبية والشبابيك الخشبية ولا السجاجيد! ( 4 )ظل رفعت الدهشوري على هذا الحال يتلاعب بميزانية المدرسة ويزور الفواتير ويتاجر في العقارات وهو سعيدٌ بذلك، ولكن الدهر حُوّل قُلّب لا يستقر على حال، إذا أضحك ساعة أبكى ساعات، وهذا ما حدث للدهشوري. ففي مدة قصيرة هاجمه مرض السكر وعانى الكثير من نوباته المتكررة، وأنفق الكثير على العلاج وضاع أغلب ما جمعه. ( 5 )زاره صديق عمره عوض نور، فوجده على هذه الحالة السيئة المتردية، فحزن حزناً شديداً ولكن من قبيل رفع الروح المعنوية لم يظهر عوض حزنه وبادره: - السلام عليكم يا رفعت كيف حالك الآن؟ - الحمد لله يا عوض.. ولو أن كل شيء ضاع.. خطيب ابنتي- وابن أخي- لم يعد منذ حرب 1956.. والآن مر عامان ولم نسمع شيئاً عنه، ويقال إنه فُقد أو استشهد في معركة الكلونتيلا.. وحتى أثاث الشقتين سُرق.. وأم الأولاد ماتت على أثر كل هذا. - كل شيء يهون يا رفعت ولا تيأس من رحمة الله.. والدنيا خد وهات، والحمد لله سمير ابنك بخير، والبلد كلها بتقول إنه حصل على شهادة عليا في الهندسة من ألمانيا، ومتزوج من مهندسة ألمانية غنية والدها طبيب وربما يعالجك هناك. - عشمي في الله كبير، وربنا يعوضنا خيراً، ووظيفة سمير في انتظاره في الإسكندرية، وكل أملي رؤياه. تفتكر يا عوض أستطيع رؤياه على حالتي هذه، وخاصة أنه سيعود بعد ثلاثة أسابيع، وأشك أن أعيش أسبوعا واحدا. - إن شاء الله ربنا يعطيك العمر وتراه، فليس هذا على الله بعزيز وتشجع يا رفعت وأستودعكم الله. - مع السلامة وشكراً على الزيارة. ( 6 )مرت الأسابيع الثلاثة، ورفعت الدهشوري يعرك عيوناً لا تنام وأجفانا لا تنطبق في انتظار ولده. ومن وقت لآخر يسأل ابنته: ما أخبار سمير يا سحر؟ - خير إن شاء الله وربما تكون إجراءات السفر هي التي عطلته. - خير إن شاء الله. وطال الوقت ومر أسبوعان كأنهما دهر، وخلال هذه الفترة أسقط في يد أخته سحر وعلمت أن أخاها مات من طعنة خنجر في خناقة وظروف غامضة وقيد المحضر ضد مجهول. والسفارة المصرية في ألمانيا تعمل جهدها لإرسال الجثمان إلى مصر بعد إجراءات تحقيق سريعة، وكان من الصعب على سحر وعمها إبلاغ والدها الذي سألها: - ما أخبار أخيك يا سحر؟ أنا خايف..- خير سيحضر قريباً بإذن الله. ( 7 )بعد يومين أخطرت سحر وعمها بموعد مجيء جثمان سمير إلى مطار القاهرة خلال ساعات. ورغم التكتم الشديد إلا أن الوالد أحس بأن الجميع متوجهون إلى المطار، وصرخ وبكى وصم أن يكون معهم لاستقبال سمير، فحملوه وأجلسوه في إحدى السيارات. وفي المطار جلس يترقب ومعه اثنان من الأقارب، فصاح أحدهما عندما رأى صندوق الجثمان: "الصندوق". - سأل الوالد أي صندوق؟!. فكان الرد صندوق سمير، أنت مش عارف ولا إيه؟ فصاح الوالد سمير مات.. ولدي مات ولدي مات.. أسرعت سحر نحو أبيها وهو يهذي ويقول: سمير مات يا سحر، كنت أريد أن أقول له عبارة واحدة وهي: "إياك والحرام ومال الحرام"، وأخذ يهذي ويقول: إياكم والحرام. ( 8 )في البيت استغرق في نوم عميق تتخلله صيحات: "إياكم والحرام"، ثم ابتسامات هادئة. وفي العاشرة صباحاً أعدت إجراءات الدفن لاثنين هما: رفعت حسن الدهشوري، وسمير رفعت حسن الدهشوري.