13 سبتمبر 2025

تسجيل

بانوراما النظام العربي في ستة عقود

22 أبريل 2015

تثير التطورات التي يشهدها العالم العربي حاليا الكثير من التأمل بشأن طبيعة الخريطة السياسية التي ستفصح عنها الأحداث، فمعادلات القوة الحالية تبدو أعقد من أي فترة مضت على العالم العربي، والذي كان منذ حصول دوله على الاستقلال، يتمتع دائما بوجود مركز وثقل واضح، أو دولة - قطب، تدور بقية أقطار العالم العربي في فلكها أو على الأقل تعترف لها صراحة أو ضمنا بامتلاك مفاتيح التأثير في المنظومة.فأيًّا ما كان التقييم النهائي لتجربته، فلا غرو أن نظام حكم الرئيس جمال عبد الناصر قد جعل من مصر قطبا فاعلاً في السياسة الإقليمية، دارت بقية دول العالم العربي في فلكه. ففي خمسينيات وستينيات القرن العشرين، آمن العرب إيمانًا راسخًا بسياسات القومية العربية، وكانت مصر في موقع الصدارة بالنسبة لهذه الدعوة، وقد استخدمها النظام المصري بفاعلية لمواجهة القوى الغربية ولتصفية التركة الاستعمارية الثقيلة في مصر والدول العربية، وفي حشد الجماهير العربية خلف قيادته. ولكن بتوالي الهزائم العربية أمام إسرائيل، وانهيار الحلم القومي بتفكك الوحدة بين مصر وسوريا، ضعفت مصداقية القيادة المصرية، بحيث لم ينته عقد الستينيات إلا وقد تراجع الدور المصري وما يمثله من ثقل قومي، وبدأ المد الإسلامي يحتل مكان الأفكار القومية. وكان من الوارد أن تتصدر مصر المشهد الجديد أيضا، نظرا لمحوريتها ومكانتها الدينية، خاصة أن حقبة الستينيات شهدت تبلورا لمشاريع فكرية مميزة مهدت للصحوة الدينية اللاحقة، كان من أبرزها المشروع الجهادي الذي صاغ ملامحه المفكر المصري البارز "سيد قطب"، ولكن برزت تغيرات نقلت مركز الثقل العربي من مصر إلى دول الخليج، ليستقر فيها طوال عقد السبعينيات.ما ساعد على هذه النقلة أنه في خلال هذه المرحلة بدأ ميزان القوى في العالم العربي يتشكل على أساس من النفط، حيث استخدمت الدول الخليجية مواردها النفطية لزيادة نفوذها السياسي والديني على الساحة الإقليمية، مستفيدة من الزيادة الهائلة في الطلب على النفط، ومن الارتفاع في أسعاره في أعقاب الأزمة التي تلت حرب أكتوبر، وهكذا وعلى مدار عقد السبعينيات انتزعت الدول النفطية الهيمنة، وأصبحت نقاطا جاذبة للهجرة العربية، الأمر الذي أسهم في ازدياد انحسار الدور المصري.صحيح أن حرب أكتوبر مثلت نجاحا للدبلوماسية والعسكرية المصريتين، إذ أثبت الرئيس السادات أنه يملك تهديد إسرائيل على نحو فعال، إلا أن القرارات المصرية اللاحقة كانت عكسية على نحو كبير، حيث قام الرئيس السادات بتوقيع اتفاقية سلام منفردة مع إسرائيل، أدخلت الدبلوماسية المصرية في عقد كامل من العزلة، ووضعت مصر في مواجهة عداء عربي واسع النطاق، "فبعد أن خاضت مصر خمس حروب ضد إسرائيل، أغمدت سيفها وخرجت من دائرة الصراع العربي الإسرائيلي فعلياً، ليصبح على الفلسطينيين وبقية الشعوب العربية تحقيق تطلعاتهم بمعزل عن الدور المصري". وقد تأكد التراجع في الدور المصري خلال عقد الثمانينيات، حيث بدا واضحا أن نظام مبارك، لا يملك مقومات الزعامة، ولا يحبذ التدخل في الملفات الخارجية، إلا إذا تلقى ضوءا أخضر من حلفائه الأمريكيين، ومن هنا فقد جاء رد الفعل المصري متواضعا على الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني في مطلع الثمانينيات، وهو الاجتياح الذي أعادت إسرائيل من خلاله تشكيل الملامح السياسية للمنطقة، في ظل عزوف مصري كامل عن المشاركة بأي درجة من درجات التأثير.الانزواء المصري جعل الأنظار تتحرك باتجاه قطب جديد كان قد بدأ يظهر على مسرح الأحداث تمثل في النظام العراقي، فبعد الانقلاب الناعم الذي نفذه صدام حسين داخليا، بدأ في تلقي مساعدات ضخمة من الإدارة الأمريكية، اقتصاديا واستخباراتيا، للوقوف في وجه إيران، التي أثارت مخاوف جيرانها بعد نجاح ثورتها. وقد لفتت الحرب العراقية الإيرانية الأنظار إلى النظام العراقي، ونقلت مركز الثقل العربي إلى بلاد الرافدين، ولكن الطموح العراقي تصاعد ليصل إلى حد الجنون بقيام الرئيس العراقي باجتياح الحدود مع جارته الكويت، واحتلالها كاملة في مطلع التسعينيات، ما أدى إلى التعجيل بنهايته كقطب عربي محتمل. ومنذ الغزو العراقي للكويت عام ١٩٩٠، دخل النظام العربي في مرحلة أزمة مستمرة، فقد أدى غزو دولة عربية لدولة عربية أخرى إلى حالة من التفكك الداخلي، بحيث أصبحت شؤون المنطقة تدار على نحو كلي من خارجها، وفي هذا الإطار برزت الولايات المتحدة كقطب أوحد على المستوى الدولي، وبشكل أوضح على مستوى ما كان يعرف بالنظام العربي. وتأكد الحضور الأمريكي من خلال ملفات متعددة، أبرزها حصار نظام صدام في العراق، وإدارة عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ومتابعة الأوضاع في لبنان، ثم التدخل في الصومال، وغير ذلك من الملفات التي كان الطرف العربي فيها منفعلاً لا فاعلا، وفاقدا أي قدرة على التأثير.والغريب أن الأنظمة العربية قد استمرأت هذه الحالة من عدم الفاعلية، بل أظهرت تململها من التراجع الذي أظهرته الإدارة الأمريكية في عهد بوش الابن تجاه المنطقة، بل ودعته صراحة للتدخل بشكل أكبر في شؤونها. إلا أن التدخل الأمريكي المنتظر أثر بالسلب على المنطقة، وهو التأثير الذي تفاقمت تبعاته بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وبداية الحرب على الإرهاب، ثم غزو وتدمير البنية التحتية للعراق. في هذا الإطار مثلت فترة إدارة أوباما، ذات النهج غير التدخلي، فرصة لدول النظام العربي المتآكل لكي تعيد ترتيب أوراقها وتستعيد قدرا من فاعليتها، ولكنها استمرت على نفس أدائها السلبي، وبدا العالم العربي في حالة من السيولة المطلقة التي مهدت السبيل لانطلاق شرارة ثورات الربيع العربي، التي علق الكثيرون آمالاً عراضا عليها في نقل مركز الثقل والتأثير من الأنظمة الفاشلة إلى الشعوب المتطلعة إلى الحرية. ولكن عادت الأنظمة العربية من الموت في محاولة للإمساك بزمام الأمور من جديد، لتدخل المنطقة في إطار معادلات غامضة لا يمكن توقع مآلاتها على وجه اليقين.