14 سبتمبر 2025

تسجيل

النوخذا يرحل بنا مرة أخرى إلى عوالمه

22 مارس 2021

"ها نحن عدنا ننشد الهولو على ظهر السفينة"، ها هو النوخذه يبحر بنا مرة أخرى كي يسرد على مسامعنا حكايات الماضي، هذا المبدع القطري الكبير المعجون بعشق المسرح، مؤلفًا، مخرجًا، مبدعًا في كل عناصر العرض المسرحي، عبر آخر أعماله التي تجسد فوق خشبة المسرح في احتفالية غابت، والآن عبر إطلالة على استحياء ولسان حالنا كما عبر أحد المسرحيين من أبناء الوطن "العوض ولا الحريمة"، معلق آخر "حراكنا المسرحي في غرفة الإنعاش". ما يهمنا أن يعود النوخذه، وأن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء ليقدم حكاية أخرى من ألف ألف حكاية رواها، وكأنه عاش ألف ألف عام. المناعي "في وادي المجادير" يضع المتلقي وسط حكاية مغلفة بالمأساة، هنا وباء يشلّ حركة الإنسان، الكائن الأضعف، وأنا "الج" إلى مقر فرقة الدوحة لمشاهدة بروفة للعرض، شاهدت العديد من القبور، قلت في سري "لا حول ولا قوة إلا بالله"، في أي عمل يقدمه هذا المعجون بالمسرح لابد من اكتمال عناصر العرض على أرض الواقع، لماذا؟ أنا أخمن وأعتقد أن الأمر مقصود! حتى يضع أهم عناصر المسرح وأعني الممثل في لحظة اندماج، ذلك أن المشاركين طوال فترة البروفات يعيشون لحظة التأمل اليومي. في هذا العمل، نماذج ثلاثة، كل نموذج يجسد مأساة إنسانية. - أم سعيد: تقع بين براثن أكثر من مأساة، الزوج الذي رحل، وها هي الآن تفقد الابن، إذًا هنا الحلم لم يكتمل، ومع هذا فإن الجدري في واقع الأمر يحصد كل الأعمار، لا فرق بين طفل وشاب وكهل، أما هي، ومع أنها تدرك أن الاقتراب من القبر فإن الفناء سوف يلحقها لا شك، وعندما يطلب منها أن تترك المكان يكون الرد، ولماذا أنت لم تهرب؟!. - أم سعيد، تتحدى الموت، ويهرب منها الموت، هي لا تتشبث بالحياة، فما طعم الحياة بدون الأمل؟، (ابنها سعيد) الذي رحل، كان سعيد الأمل الذي ينير كل دروب الحياة لها، ومن خلال الحوار بين هذه الشخوص والمشبعة بالألغاز، ولعل اللغز الأهم ما قيمة الحياة؟ إن قيمة الحياة العلاقات الإنسانية، وعندما نفقد الأحبة فلا قيمة لوجود الفرد، وعبر حواره المتدفق فلسفة كونية بين أم سعيد والمداوي. - المداوي: لا يزال الجدري بعيدًا عنك، فلماذا البقاء هنا؟ - أم سعيد: وماذا أفعل هناك، سعيد ينام هنا كيف أبتعد عنه؟ - المداوي: يا الله، ولكنها إرادة الله يا أم سعيد. - أم سعيد: (تقاطعه) نعم، أعرف، أعرف (تنظر حولها) هنا أكثر سلام، أكثر هدوءا لا صراخ ولا عويل!. إذًا الموت لا يمثل الفناء، ولكن كما تقول أم سعيد، تنتهي بالهدوء والسكون! والنوخذه المناعي في كل أعماله ذات البعد الإنساني، لا ينسى أنه شاعر، بل واحد من أبرز الشعراء صاحب المفردة الخاصة والموغلة في ضمير الأمة، هنا يحمل أم سعيد الأناشيد التي تحفر في الذاكرة تأكيد الموقف والحالة في آن واحد. الحياة هنا في المقبرة ووسط الجثث لا تبعث الرعب في النفوس، وأم سعيد تحمل فلسفتها الخاصة، من أكله الجدري ومات كان مصابًا ولم يعد كذلك، أما أنا فمصابة وسأبقى مصابة ما بقيت أنفاسي، نعم إذا كان سعيد قد رحل بسبب الجدري وقد غاب تحت الثرى، فإن الأم المكلومة مصابها أكبر، ففي كل لحظة يعيد لذاكرتها مشاهد من ذكريات فلذة كبدها، تقول "هنا يصطاد الطيور؟ والشريط يعيد لها ما كان، هنا يلعب مع أصحابه". ومع أن الموت يحصد الأرواح، إلا تأكيد هذا يأتي عبر جملة عابرة تحمل الفلسفة، فلسفة الموت والحياة، لا أدري لماذا تذكرت مشهد حفار القبور في رائعة شكسبير "هاملت" يقول المداوي "يزداد عدد الموتى ويقل عدد المشيعين"، في اختزال عبَّر النوخذه ما هو كائن، فلم يعد هناك أنفاس أخرى بعد أن حصد الوباء معظم الأرواح!. إذًا نحن أمام شخصيات انسلخت عن الحياة، لأنها وجدت أن الراحة في الرحيل عن الدنيا، أم سعيد فقدت حلمها برحيل "سعيد"، أما المداوي وإن كان عبر جل حوارته مع أم سعيد فهو "اليأس في المطلق"، لا أسرة ولا أهل، هارب من قدره إلى الارتماء في حضن الموت، لعله يجد الراحة، ورحلته في إطار الهروب من واقع لا ذنب له فيه أمرّ من مأساة "أم سعيد". هناك لعبة يمارسها "المداوي" وهو كالطير يرقص مذبوحًا من الألم، أو كما نقول في المثل الشعبي "عندي دوا الناس ما عندي دوا روحي"، لا أدري بمقدور من أن يحكم على نصوص هذا الكاتب، فهو يخلق نقلات في الحوار، كي تؤكد حالة، فالمداوي وهو يقدم نصائحه لأم سعيد بالابتعاد، لكن المرأة المكلومة في إطار الحوار، يسرد على مسامعه أمرًا آخر، "كان ذا قامة مديدة كأنه والده"، هذا الانفصال أو اللامبالاة، جزء مقصود، من قبل النوخذه بو إبراهيم. وأنا أقرأ النص، طاف بذهني سؤال، من يحكم على نصوص هذا النوخذه عبر ما قدم من نصوص للمسرح القطري والتي تعتبر علامات فارقة، المضحك أن بعضهم لم يشاهد عروضًا تُعدّ على أصابع اليد، ولكن هذا ليس طعنًا في قدرات البعض، فلا ذنب لزيد أو عبيد في اختياره، ولكن ما يشكل نقطة سوداء ألا يكونوا مدركين أبعاد الحوار، وهذا الحوار عبر الاختزال، تقول أم سعيد "كان للأيام القادمة، عكازي في الكبر، كنت أحلم بأولاده، لكنه ذهب"، ويحتدم الحوار، حول المكان - البطل - بين كليهما حتى إن أم سعيد ترفض الهروب، فالقبر يضم جثة ابنها، وتقول "وأنا كان لي ولي ولكنه أصبح هنا"، أما المداوي، فليس له أحد في دنيا الأحياء". المكان، البطل ولأول مرة تتحول المقبرة بوحشتها ونفور الناس منها إلى ديكور يجسد الأحداث، فإذا كان المكان يخلق الإحساس بالأحداث، فهنا المكان يجسد الصمت، ولكن الحياة من خلال فلسفة الموقف بدلالاته، يقول المداوي: "أشفقت على نفسي، ليس لي ولد أو قريب"، ويبرر وجوده في المكان، بأنه لن يكلف أحدًا شيئًا، فهو سيكون جزءًا ممن رحلوا، أما أم سعيد، فعبر حوار فلسفي تقول، "ليتني مثلك، ليس لي أحد". هروب المداوي إلى هذا المكان، لأنه انسلخ عن الحياة عندما هرب وهنا يجد في هذه اللحظة من عمر الزمن يجد رفقاء تحت الثرى، بعد أن هجرهم، وماتوا في قلبه! هل هي ذات الفلسفة التي طرحها ذات يوم "جان بول سارتر –الجحيم هم الآخرون" وهل حقًا تلظى بجحيم الأحبة؟ مجرد سؤال!. ولذا ففي غربته هنا يجد المواساة. النوخذه في الانتقالات عبر محاور الحوار يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الكاتب وهو يخلق الشخوص والأحداث، كيف يجعل المتلقي في لحظة انتظار لما يأتي، تقطع أم سعيد حوارهما باسترجاع سيرة راحلها العزيز سعيد، "شغلت نفسي بالبحث عن الفتيات عمن ستكون عروسته". ومع أن معظم الأحلام تتبخر، فإن لحظات الصمت، وتلك المواويل الشجية تشكل حقًا إطارًا تكامليًا للمشهد، والسؤال الأهم، ما الذي أضافه خروج المؤذن الأعمى من القبر؟ إنه الضلع الثالث من مأساة الإنسان، موت سعيد الركن الأول في فاجعة "أم سعيد"، ومأساة المداوي وما حدث له وجعله يهرب ويفرّ خارج "الوطن، بفعل الآخر، أما هذا الأعمى، فالمأساة تتجسد من خلال "الأهل"، إن "المجدور" وهنا يطرح المداوي سؤاله اللغز، أنت حيّ، من دفنك وأنت حيّ؟ ويكون الرد المجدور: أبنائي وأحفادي. الآن أصبح الحوار في اللعب بالمصائر، واضحًا وصريحًا بين الثلاثة، الخوف من الوباء عند المداوي وأم سعيد، بل إن أم سعيد تهدده "أكمل حكايتك ولا تقترب أكثر"، إنها غريزة حب الحياة، بين ما كانت تتمنى في البداية والآن، قد تغير الحال. أما المجدور فهو يقوم بتغيير الحوار عندما يتحدث عن الطريق الذي كان يسلكه عندما كان مؤذنًا وسميت "درب المؤذن" أما كيف مثل لأولاده وأحفاده دور الميت حتى يهربوا بجلدهم، حتى علقت ابنته الكبرى بالقول "الحمد لله لقد ذهب، ارتاح وأراحنا"، هذا المجدور الأعمى يرد على المداوي عندما استفسر منه لماذا لم يبق تحت الثرى كما كان فعلاً؟ فيكون الرد من قبل المؤذن الأعمى "هل تعرف مصيرك". نعم الموت والحياة بيد الخالق، إذًا لا مفر مما هو مكتوب للإنسان ولا يموت الإنسان إلا باللحظة المحددة له، ولذا لم يجد المجدور شكلاً آخر لمساعدة أبنائه وأحفاده سوى أن يدفن وهو حيّ!. وعندما يكاشف المداوي أن "الجدري" لن يتمكن منه للمرة الثانية بعد أن أصيب به وهو طفل وسلب منه نعمة البصر، يكون رد المجدور: بحزن "وما الفائدة الآن، لقد ذهبوا، ذهبوا"، ثم يحدد مأساة كل فرد في إيجاز أنت ودعت أرضك وحبيبك منذ زمن بعيد وهي بالأمس ودعت وحيدها، وأنا ودعتهم داعيًا الله أن ينجيهم، ولا ندري من منا سيلاقيهم أولاً. إنها حكمة تلفظ بها الأعمى وكأنه يبصر الواقع، ويعري واقع كل فرد منهم، لأن لكل فرد مأساته الخاصة، والمكان –البطل- قد جمعت فيما بينهم لكي يسرد كل واحد منهم مأساته، وعندما تعلق أم سعيد بأنهم هناك أحياء، يقول المجدور، "وما الفرق البعيد كالميت"، ما أروعك يا أبا إبراهيم وأنت تحلّق بالمفردة وتعيد صياغة الحكمة شعرًا ونثرًا ومن هو الأقدر على صياغة مثل هذا الحوار الفلسفي العميق والأجمل أن الثلاثة قد اجتمعوا برغبتهم، المداوي وقد هرب إلى هنا يتمنى الرحيل وحيدًا، وأم سعيد قد أتت وتحف بها حلم لن يتحقق بعد أن دفنت فلذة كبدها، والمجدور الأعمى حضر برغبته. والملاحظ أن الحوار يأخذ منحى آخر، فكل منهم يتحدث بخلاف السياق المنطقي للحوار والمواقف، إنها عبثية الأقدار، وكأنما لغة المخاطبة مفقودة فيما بينهم. المداوي: هل أنجبت؟ أم سعيد: ليت المنيا ما عرف درب. المجدور: ما الوقت الآن؟ المداوي سؤاله استفساري عن زوجته التي هجرها، وأم سعيد كانت تتمنى أن يعيش (سعيد)، أما الأعمى فسؤاله العبثي عن الوقت. هنا مقبرة، هنا جثث أسلمت القيادة للموت، وهنا حياة عبر صوت قادم يترنم بالغناء، وتؤكد أم سعيد أن الحياة لابد وأن تعود يومًا وأن الأرجل تطرق أرض الوادي مرة أخرى. وينهمر المطر، ليغسل كل شيء كما في الحكايات الشعبية أن نزول المطر سوف ينظف الأرض من الأوبئة والأمطار، أو كما في مسرحية "عربة الصلصال الصغيرة" للكاتب الهندي شودراك، عندما ينهمر المطر فيغسل كل ما علق بالنفوس ويحدث التطهر. النوخذه بو إبراهيم، كان غيابك فراغًا حقيقيًا في مسارنا، ذلك أن غياب الرموز موات حقيقي للإبداع، وهذه العودة حتى على استحياء من قبلهم تأكيد أن الرموز هم من يخلدون الإبداع، وأنت ستظل الرمز الأكثر تأثيرًا في حياتنا. وأخيرًا تحية خاصة لنجوم اللعبة الفنان أحمد عفيف، وجاسم السعدي، وزينب العلي، وكل من ساهم في خوض غمار هذه التجربة بكل أبعادها. [email protected]