18 سبتمبر 2025
تسجيلما يدور في العالم هذه الأيام من أزمات وحروب ونزاعات وخلافات دولية، وما شهده العالم بأسره من تداعيات وانعكاسات 11 سبتمبر 2001 يؤشر إلى تطورات خطيرة قد تعصف بالديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية الصحافة حتى في أعتق ديمقراطيات العالم. ما كان متعارف عليه في الأوساط الإعلامية والسياسية بالسلطة الرابعة أي سلطة الإعلام التي تراقب السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية أصبح في خانة التاريخ وأدبيات الماضي حيث إن ما يحدث هذه الأيام في الأوساط الإعلامية العالمية أصبح بعيدا كل البعد عن أطروحة وسائل الإعلام كقوة مضادة أو سلطة تراقب تجار الحروب والأسلحة وصقور البيت الأبيض. فالإعلام الذي يغطي مجازر ومذابح بؤر توتر عديدة في العالم أصبح يطبل للحرب أكثر مما يعبر عن بشاعتها وعدم شرعيتها وقانونيتها وإنسانيتها وعن خسائرها وتداعياتها وانعكاساتها السلبية الكبيرة. الإعلام كسلطة رابعة أصبح أسطورة وأصبح نظرية جوفاء لا أساس لها من الصحة في أرض الواقع. وسائل الإعلام أصبحت جزءا من القوى الفاعلة في المجتمع وأصبحت جزءا من البنية الفوقية التي تتحكم فيها قوى المال والأعمال والسياسة. فالإعلام الذي كان من المفروض أي يكشف العيوب والتجاوزات والمغالطات الكبيرة والتلاعبات الخطيرة بالرأي العام أصبح جزءا من اللعبة يبرر ويفسر ويضلل ويعتم لصالح الوضع الراهن ولصالح القوى الفاعلة في المجتمع على حساب غالبية الشعب وعلى حساب الموضوعية والحرية والحقيقة. فالماكينة الإعلامية أصبحت اليوم هي المنظر والمبرر والمفسر لما هو عليه العالم اليوم، عالم تحتكره وتسيطر عليه حفنة من أباطرة المال والسياسة. فالإعلام في عالمنا اليوم يتميز، على حسب قول "إغناسيو راموني"، بالتلوث والتسمم بكل أنواع الأكاذيب والإشاعات والتضليل والتشويه والتلاعب. والمطلوب بكل بساطة هو تطهير هذا الإعلام من كل هذه الشوائب والملوثات. ومن هنا يتوجب على المنظومة العالمية في التفكير في إنشاء مرصد عالمي للإعلام لمراقبة التجاوزات والألاعيب، كما يتوجب على المجتمع المدني في كل دولة أن يشكل مرصدا على المستوى الوطني لمراقبة التضليل والتعتيم والتلاعب بالحقيقة لصالح حفنة من أصحاب النفوذ المالي والسياسي. إن الصناعات الإعلامية الضخمة أصبحت تفضل مصالحها بالدرجة الأولى على حساب مصالح الشعوب والدول والأمم والإنسانية جمعاء. التجارب في الميدان أكدت أن الصناعات الإعلامية الضخمة سرقت ونهبت حرية التعبير وحرية الصحافة من أصحابها الحقيقيين وهم الشعوب لصالح أصحاب المال والنفوذ السياسي وهذا الموقف يتناقض جملة وتفصيلا مع مبدأ الديمقراطية ومبدأ السوق الحرة للأفكار ومبدأ المسؤولية الإعلامية.إن القوانين التي تنظم وسائل الإعلام عبر العالم حاليا هي قوانين ناقصة وغير قادرة إيقاف مسلسل وسيناريوهات التلاعب واستغلال وسائل الإعلام لتحقيق مصالح ضيقة لجهات محددة. ما يحدث اليوم من أزمات ونزاعات وحروب وانتهاكات لحقوق الإنسان في مناطق عدة في العالم هو وصمة عار على الإنسانية جمعاء ووصمة عار على المتلاعبين بالعقول وأولئك الذين يتفنون في التشويه والتضليل والتعتيم من أجل فبركة الواقع وفق أجندة محددة وليس تقديم هذا الواقع كما هو. لقد تفطن " وولتر ليبمان" لهذه العملية في عشرينيات القرن الماضي بجملته الشهيرة " الواقع كما تصوره لنا وسائل الإعلام". فالحروب والأزمات والصراعات هي بمثابة وصمة عار على جبهة كل إعلامي يدعي أنه يدافع عن الحق ويكشف المستور عن كل ما هو معاد للإنسانية ولحقوق الإنسان وللاستغلال والبطش والاستعمار والاستيطان...إلخ. إن المجتمع المدني أمام مهمة كبيرة جدا ومسؤولية ضخمة للوقوف أمام سرقة حرية التعبير والحريات الفردية وحرية الصحافة من شعوب العالم قاطبة سواء في الدول المتقدمة والتي تدعي الديمقراطية وحرية الفكر والرأي، أو في الدول النامية التي تعاني من نارين، نار الهيمنة والسيطرة الخارجية ونار التسلط والدكتاتورية في الداخل. إن الوضع الذي توصلت إليه وسائل الإعلام في القرن الحادي والعشرين يشير إلى خطورة كبيرة يجب دراستها ومعالجتها في أقرب وقت ممكن، لأن الأمر يتعلق بتحنيط العقول والتضليل والتلاعب بالرأي العام العالمي على حساب المبادئ الأساسية للإنسانية ولحقوق الإنسان ولحريته وكرامته. إن ما يحدث في العراق وما يحدث باسم محاربة الإرهاب وما يحدث في فلسطين وأفغانستان ما هو إلا انتهاك مباشر وعلى الهواء لحقوق الإنسان ولحرية التعبير والحريات الفردية. إن أخطر شيء تعاني منه البشرية هو تلويث الفكر وأكبر جريمة تعيشها هي التضليل والتشويه وإخفاء الحقيقة وترويج الأكاذيب والأساطير وسلب حق المعرفة وحق التعبير عن الرأي وحق الاختلاف في الرأي من عامة الشعوب في العالم. العالم اليوم بحاجة إلى سلطة خامسة توقف تواطؤ وتحالف وسائل الإعلام مع تجار الحروب والأسلحة وترجع الحق في المعرفة والإعلام والاتصال والرأي والاختلاف في الرأي إلى شعوب العالم. من غير الممكن أن تنعم البشرية بالاستقرار والأمن والطمأنينة والسلام في ظل إعلام ملوث وحابل بالأكاذيب والأساطير والتضليل والتلاعب. فحوار الحضارات والديات والثقافات لا يكتب له النجاح في ظل ممارسات إعلامية بعيدة كل البعد عن النزاهة والموضوعية والمهنية والالتزام.فالسلطة الخامسة من شأنها أن تراقب تواطؤ وسائل الإعلام والماكينة الإعلامية مع سلطة المال والسياسة. هذه السلطة الخامسة هي سلطة المجتمع المدني في تطهير المجتمع من التلوث الإعلامي والثقافي وتطهير بذلك عقول وأفكار الشعوب في مختلف أنحاء العالم. هذه الشعوب التي أصبحت مجرد أرقام تستغل وتستعبد وتستعمل كآلات للإنتاج والاستهلاك ليس إلا. وما دامت عقول شعوب العالم ملوثة وحبلة بالأكاذيب والخرافات والأساطير والتضليل والتشويه فإنه من الصعب جدا الكلام عن حوار الثقافات والديانات وصداقات الشعوب والأمم. فالتزييف والتضليل والتشويه والتعتيم ماهي إلا آليات تفرز الحقد والكراهية والجهل التي تعتبر من مظاهر التخلف والغطرسة. وصدق من قال إن الطبيب إذا أخطأ فقد يتسبب في وفاة شخص أما الصحفي إذا أخطأ فإنه يقتل ضمير وعقل وفكر الملايين. ومن هنا تأتي الخطورة الكبيرة لوسائل الإعلام عندما تنحرف عن رسالتها الشريفة والنبيلة وتنحاز لسلطة المال والسياسة.