14 سبتمبر 2025

تسجيل

هل من حق علماء الشريعة أن يحكموا على الفن والإبداع؟

22 مارس 2012

 فوز الإسلاميين ووصولهم للسلطة في أكثر من بلد – فلسطين وتركيا ومصر وليبيا وتونس.. – أثار بعض التخوفات لدى خصومهم وطرح واستحضر جدالات كثيرة تحت عناوين كثيرة " مرجعية الإسلام، وقواعد الدستور، والعلاقات الدولية، والمعاهدات الخاصة، وعملية التسوية، وحقوق الإنسان، وقضية المرأة، وتدخل الفقه الديني وعلماء الشريعة في مسألة الفن والإبداع والتأليف، والأطر والمقبول والمرفوض في كل ذلك.. قبل أيام وعلى إحدى الفضائيات دار نقاش (وإن شئت قل صراع) حول مسألة أحقية أو عدم أحقية تحديد ضوابط ومعايير يتم من خلالها نقد الأعمال الفنية من قبل غير المختصين – الفنانين - وأحقية أو عدم أحقية تدخل علماء الشريعة الإسلامية - تحديدا – في ذلك.. والذين يرفضون النقد الديني والأخلاقي للفن يقولون الفن ينقده الفنانون والإبداع ينقده المبدعون وليس علماء الشريعة تماما مثلما أن فتاوى الدين ينتقدها علماء الدين وليس سواهم.. وأقول ابتداء: مما لاشك فيه أن الكثير من المفاهيم الجميلة التي تشكل هويتنا الثقافية والدينية قد تم حقنها وتضمينها معاني فاسدة (كليا أو جزئيا) كجزء من الحرب الثقافية والنفسية والقيمية على هويتنا فصار كل مفسدة تسوق على أنها الإبداع الذي ما بعده إبداع وروج لكل المحرمات بغير اسمها - فالخمر صار مشروبات روحية، والربا صار فوائد بنكية، وإخراج المرأة من الحماية المجتمعية صار تحريرا، ومنع النسل صار تنظيم أسرة، والهيمنة الأجنبية صار تعاونا دوليا، والغزو الثقافي صار تبادلا ثقافيا.. إلى آخر هذه السلسلة.. والفن الذي في أصل اللغة (واحد الفنون ؛ وهي الأنواع، والأفانين الأساليب وأجناس الكلام وطرقه، ويقال: رجل متفنن أي ذو فنون) – مختار الصحاح - فنن - ص513 – هذا الفن بكل معناه الكبير والواسع اختزل واقتصر وانحصر في الطرب والتمثيل.. ولم يعد له تعلق بفنون العلم وفنون الكلام وفنون التربية وفنون الدعوة وفنون التعليم وفنون التأثير.. كذلك الإبداع فهو (من أبدع الشيء اخترعه لا على مثال سابق، والله بديع السماوات والأرض أي مبدعهما..) - مختار الصحاح - بدع – ص43 – غادر هو الآخر كل معانيه ومضامينه ليلتحق في زماننا بالمعنى المزور للفن وليصير ذيلا له لا يكاد ينفصل عنه إلا عندما يتجاوز الخطوط الحمراء القيمية والدينية.. ولم يعد يحتوي أي مضمون من التفوق العلمي وبراءات الاختراع ولا حتى في مواجهة الأمية والتجهيل والغزو الأجنبي.. على العكس فمن يتحدث اليوم – أو بالأمس القريب – عن هذه المواجهات ويبدع في مخالفة البؤس الدارج فيها صار يوصف بالتخلف والرجعية والنمطية والحجرية والخشبية والموتورية.. لذلك أرى أن على من يحاور في هذه الموضوعات تحرير دلالات الألفاظ وأصل المعاني ابتداء.. وعليه فالتمثيل والغناء والطرب ليس هو الفن والإبداع حصرا فإن كان يثير الغرائز ويصرف عن الجدية ويتناغم مع الغزو الفكري الأجنبي.. فإنما هو العدوان والاختراق والبؤس بعينه ؛ مهما تسمى بغير اسمه أو نسب لغير أهله.. أما أن الفن ينتقده الفنانون كما أن الفتاوى ينتقدها علماء الشريعة ؛ فهذا وإن بدا كلاما جميلا ومنطقيا فإنه غير صحيح وقياس على غير أساس (مع الفارق – كما يقال -) وذلك من وجهين ؛ الأول: أن الفتاوى - في الواقع - صار ينتقدها كل من هب ودب من فنانين وسياسيين وحتى من غير المسلمين.. والوجه الثاني: أن الفن ليس كالفتوى ؛ فالفتوى هو اختصاص قائم على علم خاص ومتابعة منهجية وليس على الرأي الشخصي ما يتطلب خصوصية في علم المفتي وفهمه.. أما الفن فله جوهر هو الفكرة والاتجاه والرسالة المتضمنة فيه واتجاهات الحلول التي يقدمها، وله شكل خارجي هو القالب الأدائي من كونه مسرحية أو شعرا أو نثرا.. فالجوهر هو موضع البحث، وهو المطلوب نقده من قبل علماء الدين ومن المفكرين ومن التربويين وهو المعرض للقبول أو الرفض.. أما الشكل الفني فهو موضع الاختصاص الذي لا ينقده إلا المختصون.. وعلى فرض أن تمثيلية أثارت فتنة، أو أخلّت بمفهوم وطني، أو جرحت المنظومة الأمنية للمجتمع، أو اشتملت على مشاهد تهتك الحياء ؛ فهل لأحد أن يقول: لا تنتقدوها فهذا اختصاص المسرحيين والفنانين؟ وهل نقدها يجب أن ينصب فقط على الجوانب الفنية من إضاءة وزاوية تصوير وعمق اندماج..؟ أي سخف هذا؟! ومن قال إن الفنان والمسرحي – الناقد – هذا بالضرورة قد أحاط بكل المنظومة الفكرية والخلقية والدينية والقانونية التي تشكل وتحكم المجتمع ليتمكن من إطلاق أحكام صحيحة في ذلك؟ أليس العلماء والمربون وعلماء النفس والقضاة هم الأقدر على نقد هذا المضمون؟ وإذا كان البعض اليوم يحاولون أن يسوقوا إمكانية نقد القرآن الكريم الذي هو (كتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) فهل الفن الذي يقوم على كشف الصدور وهتك الستور وهز الخصور أكثر معصومية وتحصينا منه لمجرد أنه يسمى فنا ولأن من أداه يقال له فنان؟ وهل لأحد بعد كل هذا أن يقول لا نقبل نقد الفن إلا إذا قبلنا نقد الفتوى؟ لعل من الإنصاف والتمام هنا أن نتعرض لقلة من علماء الدين في الجهة الأخرى الذين يتوجسون من كل ما يأتي من جهة الفنانين وبالأخص إذا كان غير مألوف معتاد.. فهؤلاء أيضا وإن كان عذرهم أن السمة الغالبة على فن وطرب هذه الأيام مجافاة الدين والنفور من رقابته ما يجعلهم يحكمون بالغالب على النادر.. إلا أن عليهم مع ذلك أن يطوروا خطابا أكثر موضوعية وينطلق من الدين لا العرف، ومن الوعي بالتطورات واحتياجات الواقع والفهم الصحيح للنصوص وتحكيم عموم البلوى ولا يحرص على استفزاز المتوجسين ولا استثارة المتربصين.. فالفن منه المقبول ومنه المرفوض.. وأذكر هؤلاء بقوله تعالى في سورة الشعراء (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) وأذكرهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر لعب الأحابش في المسجد بل واستمتع به، وأذكرهم أيضا بعثمان بن مظعون الصحابي رضي الله عنه الذي مر على الشاعر لبيد وهو ينشد أهل مكة شعرا فقال في شعره: ألا كل شيء ما خلا الله باطل.. فقال عثمان: صدقت! فأتبع لبيد: وكل نعيم لا محالة زائل.. فقال عثمان: كذبت فنعيم الجنة لا يزول.. فهو إذن قبول ورفض ولكنه عن بينة وعلم بعيدا عن شخصنة جهة القابل والرافض وجهة المقبول والمرفوض.. آخر القول: الفن والإبداع والتأليف هو نشاط ونتاج بشري فمن الطبيعي أنه يتأثر بأهواء وآراء واتجاهات واضعيه، وله ظاهر هو القالب الفني الذي لا ينتقده إلا المختصون في جنسه، ولكن له مضمون هو الفكرة والمحتوى الأخلاقي والرسالي الذي ينتقده علماء الدين كما خبراء التربية وقضاة المحاكم ورجال الأمن.. ومنه المقبول ومنه المرفوض وليس لأحد يتجاوز الحدود فيه حصانة لا لذاته ولا لفنه.. اللهم إلا إذا كان البعض يريد " قصقصة " الدين وأخذ بعضه وترك بعض وهو ما يجب أن يكون مرفوضا..