12 سبتمبر 2025
تسجيللا يمكن للواقع العربي أن يتقدم خطوة إيجابية إلى الأمام دون حد أدنى من المصالحة، على الأقل، لما تبقى سليماً من أطراف النظام العربي. لكن سنن التاريخ وقوانين الاجتماع البشري تؤكدُ أنه لا مصالحة دون إصلاح. هذا إذا كنا نتحدث عن مصالحةٍ حقيقية وليس عن مظاهر خارجية وشعارات للاستهلاك. وفي الحقيقة، لا وجود ولا حاضر ولا مستقبل للعرب في غياب الإصلاح.ما من شكٍ أن للعرب بصمتهم المختلفة في كل شيء.يفعلون كل ما يفعله الآخرون، ولكن أيضاً بأسلوبهم المميز الذي لم يعرف التاريخ له مثيلاً.فهم يتقنون مثلاً صناعة التاريخ، لكنهم يصنعونه على طريقتهم الخاصة، والتاريخ الذي يصنعه العرب اليوم سيبقى إلى زمانٍ طويل تحت بند (حقوق الاختراع المحفوظة)، بإيجابياته وسلبياته.نحن نعيش في عالمٍ مليء بالتناقضات، هذه حقيقةٌ لا يماري فيها عاقل، لكن الأسئلة تطرح نفسها:لماذا يصرُّ العرب على الحياة في ظلِّ متناقضاتٍ إضافية مُختلَقة يُحاصرون أنفسهم وشعوبهم، وحاضرهم ومستقبلهم، فيها؟خنقَ العرب أنفسهم وحاضرهم وهم يتصايحون لزمنٍ طويل.لا صوت يعلو فوق صوت (المقاومة)..لا صوت يعلو فوق صوت (الكرامة)..لا صوت يعلو فوق صوت (الاستقلال)..لا صوت يعلو فوق صوت (الاعتدال)..لا صوت يعلو فوق صوت (الواقعية)..لا صوت يعلو فوق صوت (النظام الدولي)..لا صوت يعلو فوق صوت (المصلحة)..كان كل فريقٍ منهم، ولا يزال، يرى الأولوية لشعارٍ من الشعارات المرفوعة أعلاه، دون غيره، واحتدم النقاش حتى وصل إلى حد الخصام والنزاع.ولكن، من قال: إن المقاومة لا تتعايش مع الواقعية؟ من قال: إن هناك تناقضاً مُستعصياً بين الكرامة والمصلحة؟ من قال: إن صيانة الاستقلال مستحيلة في ظل النظام الدولي؟أي فكرٍ سياسي هذا الذي يفهم العالم ويتعامل معه بتلك الطريقة؟كيف يمكن أن نقلب الحقائق رأساً على عقب في عالمنا العربي إلى هذه الدرجة؟إلى متى تستمر هذه الطريقةُ في التحليل السياسي محوراً لصناعة القرار في حياتنا العربية؟متى ندرك حقائق بديهية أدركها العالم منذ زمن؟ وبدأ (جيراننا) يدركونها في السنوات الأخيرة ويستحوذون على مساحات من القوة العالمية والنفوذ الإقليمي بناءً عليها؟متى ندرك مرةً واحدةً وإلى الأبد أن تحقيق (المصلحة) لا يُمكن أصلاً إلا في ظل وجود (المقاومة الحقيقية) و(الإصرار على الكرامة) و(إرادة الاستقلال) و(منهج الاعتدال) و(مدخل الواقعية) و(احترام النظام الدولي) معاً؟متى ندرك أن مصيبتنا الرئيسية والأولى تكمنُ في عملية الفصل التي مارسناها في التعامل مع تلك المفاهيم المترابطة؟كيف يمكن للعالم بأسره في الغرب والشرق أن يرى استحالة التخطيط السياسي وإمكانية صناعة القرار في معزلٍ عن استخدام تلك العناصر مجتمعةً، في حين نرى وحدَنا دون العاقلين من الناس أنها مُتضاربة إلى درجة أن تُصبح في واقعنا سببَ الخلاف والشقاق والمهاترات والقطيعة؟!لا يمكن أن يحصل هذا إلا في غياب (المشروع العربي). في عالمٍ يزدحم بالمشاريع القديمة والناشئة.حسناً، سنكون واقعيين هنا ولن نقفز إلى المطالبة بمشروع عربي.لكن باب المصالحة العربية المفتوح باستحياء هذه الأيام يمكن أن يكون خطوةً صغيرةً أولى على طريق ظهور ذلك المشروع إلى النور، غير أنها خطوةٌ لن تقود إلى شيء إلا بالعودة إلى حديث الإصلاح، قبل أي شيءٍ آخر.وهنا أيضاً، يجب على العرب تفكيك تناقضات تُشوّشُ تفكيرهم، ويجعلونها تحديداً محور ثقافتهم السياسية ومحور صناعة القرار لديهم.فالإصلاح لا يجب أن يعني بالضرورة ثورةً تعصف بالاستقرار، والإصلاح لا يعني بالضرورة تغييراً يقف في وجه الاستمرارية، والإصلاح لا يعني بالضرورة زعزعةً للمشروعية السياسية. هذا إذا تم التعامل مع عملية الإصلاح بالجدية والتوازنات المطلوبة والممكنة.والإصلاح في نهاية المطاف يعني مصالحةً (حقيقية) مع شعوبٍ عربية باتت تتطلع إلى حياةٍ كريمةٍ تؤمن لها رزقها الحلال وما تستحقه من صحةٍ وتعليمٍ وفرصة للعمل المشرّف والمشاركة في صناعة حاضرها ومستقبلها، وفي صيانة استقرارها واستقلالها وأمنها.هذا هو الإصلاح الذي نتحدث عنه ببساطةٍ واختصار. ولا داعي لتعقيد الأمور وفلسفتها في هذا الإطار.لكنّ الخطير في الموضوع أن غياب هذا النوع من الإصلاح سيُفجّر أي مصالحةٍ عربية. وسيُفجّر بعد ذلك الواقع العربي بأسره.قد يكون مطلوباً أيضاً الحديث عما لا تعنيه المصالحة لارتباطها بالإصلاح.فقد رأى النظام السياسي العربي إلى أي مدى يُمكن للاختلاف أن يَخصم من مشروعيته السياسية. وإلى أي مدى يمكن للقطيعة أن تكون مدخلاً للاستفراد بأطرافه واحداً بعد الآخر. وإلى أي مدى يمكن للشقاق أن يستنزف من طاقات الأطراف المختلفة في زمنٍ بات شحيحاً بالطاقات والموارد.لهذا، فالمصالحة لا يجب أن تعني بالضرورة الاستتباع أو الاحتواء أو الإذعان لرأي واحد. ولا يجب أن تعني غياب الاختلاف في وجهات النظر كلياً.السياسة أدوارٌ ومصالح، ولو جرّب العرب تحصيل مصالحهم المشتركة من خلال توزيع الأدوار لرأوا العجب العُجاب. ولأبصروا بعين اليقين كيف يَظهر احترامٌ متبادل وغير مسبوق مع (النظام الدولي).. في وجود رؤيةٍ سياسية تمزج في عناصرها بمهارة (المقاومة الحقيقية) و(الإصرار على الكرامة) و(إرادة الاستقلال) و(منهج الاعتدال) و(مدخل الواقعية) معاً.والسياسة تنازلات مُتبادلة، فلو تجاوز العرب عقلية (كل شيء أو لا شيء) لحلّوا من خلافاتهم أكثر مما يتصورون، ولتبين لهم أن التعامل مع التحديات الإقليمية والعالمية من مدخل (المحاور) كان فخاً قبل أن يكون أي شيءٍ آخر.ربما تبدو معادلة المصالحة والإصلاح معقدة لدى البعض. لكن السياسة فنُّ الممكن، وقد تكون ثمة فرصة لتحقيق ذلك الممكن خلال المرحلة المقبلة في وجود قدرٍ من الإرادة السياسية، وقبلها وبعدها قدرٍ من التفكير السياسي الجديد.