14 سبتمبر 2025

تسجيل

ولادة في غير وقتها

22 فبراير 2014

لبنان غالب ما يفاجئ المراقبين له.. دولة في قلب الصراعات الشرق أوسطية تؤثر بها وتتأثر، وأحيانا تشكل استثناء داخل محيطه.. هكذا ولد لبنان ككيان استثنائي انتزع من جسد الدولة العثمانية العليا.. وهكذا نما في جمهوريته الأولى منزوعاً من الجسد السوري ليشكل حاضنة لأكثرية مسيحية وسط بحر إسلامي.. أُريد له زمن الاحتلال الفرنسي أن يكون جسر عبور الغرب إلى الشرق، وأُريد له بعد الاستقلال أن يكون ميزانا يقيس حرارة العلاقات بين الأشقاء الكبار من حوله: مصر، سوريا، العراق، السعودية، وحتى ليبيا في فترة من فتراته. كان لبنان خلال الحرب الأهلية التي دامت عقدا ونصف يمثل تصارع رغبات وتطلعات ونزوات النظم والحكام العرب.. عانى طويلاً ومازال يعاني.. وكلما حاول أن يقيل عثرته يتعثر مرة أخرى حتى غزاه الربيع العربي برياحه الساخنة القادمة من سوريا قبل أن تتحول إلى حفيف نار تقتات على احتقان مذهبي مزمن. حاول لبنان أن ينأى بنفسه عن الصراع في سوريا واخترع مصطلحا جديدا في العلوم السياسية سماه "النأي بالنفس" وترجم هذا المصطلح في تصويت مندوب لبنان في جلسات الجامعة العربية بخصوص الأزمة السورية، فلم يكن موافقة على قرار اتخذته الجامعة ولا معارضة له.. بل هو بين بين.. شيء أشبه بطلاسم أهل المنطق وعلم الكلام.. هو نأي بالنفس لا يفهمه إلا الساسة اللبنانيون من بين الساسة العرب.. لم يترجم المصطلح جيداً، فإذا بلبنان يغرق في الوحول السورية من حزب الله بعددته وعتاده إلى الجماعات السلفية بما تحويه من تخبط وفوضى وصولاً إلى تصريحات السياسيين من كل حزب ومشرب، جميعها لا تكف عن التدخل في الشأن السوري.. وفي نهاية المطاف وجد لبنان نفسه غارقا حتى أذنيه في المعمعة السورية. فما كان من حكومة ميقاتي إلا القول: "نأينا بأنفسنا عن الأحداث في سوريا إلا أن الأحداث هناك لم تنأى بنفسها عنا". وبات يتندر اللبنانيون بمصطلح "النأي بالنفس"، على منوال: الحكومة فقط من تنأى بنفسها عن سوريا أما الشعب اللبناني وأحزابه وطوائفه فكلها تخوض حربا وسجالا في تفاصيل الوضع السوري. اليوم تولد حكومة في لبنان.. ليست حكومة حيادية، كانت قوى 14 آذار تأمل بها، وليست حكومة أمر واقع يخشى حزب الله من فرضها، ولا هي حكومة اللون الواحد التي شكلها حزب الله وحلفاؤه سابقاً بعد أن قطع تذكرة ذهاب لرئيس الحكومة السابق سعد الحريري. إنما هي حكومة المصلحة الوطنية كما يعلن رئيسها تمام سلام ويؤازره في ذلك السيد حسن نصر الله.. مصطلح جديد في العلوم السياسية يضاف إلى سلسلة المصطلحات التي يخترعها اللبنانيون في إدارة قضاياهم السياسية.. هي "حكومة المصلحة الوطنية"، وليست حكومة الوحدة الوطنية، ويقصد مطلق المصطلح أن مهمة حكومته هو إنجاز الاستحقاقات الدستورية في موعدها مثل القانون الانتخابي وتهيؤ البلاد لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، ومساعدة الجيش في تحقيق الأمن المتردي في كل قطعة وزاوية من لبنان.. هي حكومة، أعضاؤها متخاصمون، يكيلون الاتهامات لبعضهم بالعمالة للخارج لكنهم يجلسون في آن واحد على طاولة واحدة لحلّ قضايا الوطن والمواطنين.. إنه الاستثناء اللبناني الذي لا مثيل له في عالم السياسة.. ساسة لبنان حالهم كحال البلد.. في الوقت الذي تتراجع فيه حظوظ التسوية السياسية في سوريا، وتتقدم مؤشرات التدخل العسكري الخارجي تخرج الحكومة اللبنانية إلى النور، فهل هي حكومة تدشن لسلسة من التفاهمات تحمي ما تبقى من لبنان؟ أم أن ولادتها لا يشي بشيء من ذلك بقدر ما يخفي تحت هذه المرونة المستجدة محاولة كسب نقاط جديدة في الصراع الذي لم يعلن الفرقاء أنه انتهى؟ لا شك أن غطاء إقليميا أعطي لأطراف النزاع لتشكيل الحكومة لكن ليس يعني ذلك أن الأيام القادمة ستكون شهر عسل.. انفجار بئر حسن في الوقت الذي تعكف اللجنة الوزارية على صياغة البيان الوزاري للحكومة لا يشجع على التفاؤل المرغوب لدى أغلب اللبنانيين الذين تعبوا من لغة الاحتقان التي أتقن حروفها وعباراتها الساسة في لبنان.