18 سبتمبر 2025

تسجيل

القرضاوي.. العالِم الإنسان

22 يناير 2016

googletag.display('div-gpt-ad-794208208682177705-3'); googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1462884583408-0'); }); تشرفت بمخالطة الشيخ وصحبته، من خلال زياراتي له في بيته بمصر، ومرافقته في بعض أسفاره الداخلية، والعمل معه في مكتبه، وأشهد أن الجانب الإنساني في شخصيته كان بارزا، ذلكم الجانب الذي يرفع أقواما، وكذا يخفض آخرين في قلوب الناس مهما علا كعبه في العلم أو الجاه والمكانة، وأذكر بعض مواقف للشيخ تظهر الجانب الإنساني في تكوينه، بعيدا عن كونه فقيه الأمة بلا منازع.كان كلما حل فضيلته بالقاهرة أحرص على زيارته، ويسبق هذا اتصال بالهاتف للسلام والترحاب، وكان حديثه في الهاتف لا يقل لطفا ومودة وحفاوة عن مقابلته، حيث يسبقك بالسلام والسؤال عن الأهل والأولاد والعمل والأحوال.وحين أزوره في بيته يقابلني بالبشر والابتسامة، كعادته مع كل ضيفانه، ويصر أن أتناول شيئا من التحية المعدة سلفا للضيفان، والتي لا يخلو منها مجلسه، قبل الحديث في أي شيء، ويذكرني صنيعه ذاك بصنيع الإمام الشافعي مع أحد ضيفانه وهو يقوم على خدمته، ويقول لضيفه مؤنسًا وملاطفًا ومخففًا عنه: لا يروعنك ما ترى مني؛ فإنما خدمة الضيف واجبة.في إحدى زياراته للقاهرة، زارنا محاضرا للدارسين بمشروع علماء المستقبل عن موضوع الفتاوى الشاذة، بإحدى قاعات جمعية رابعة العدوية حيث مقر المحاضرات.وأذكر أننا قدمنا لفضيلته يومها مشروبا من عصير المانجو، وحين هم أن يشرب سأل عن مرافقه الذي كان يقود له السيارة لكي يطمئن عليه، ولم يشرب حتى اطمأن أنه يشرب مما يشرب، وقليل هم من يلتفتون إلى مثل هذه الأمور البسيطة في ظاهرها، ولكنها عميقة في جوهرها، ذات دلالة نفسية عظيمة في نفوس من يعرفون ذلك، وهي بلا ريب مشاهد تفصح عن إنسانية الشيخ الذي يهتم بمرافقه ويعتني به، ويظهر ذلك عمليا من خلال تصرفاته.ومما أذكره جيدا يومها أن القاعة كانت مكتظة بالحضور ممن جاءوا من كل حدب وصوب، وكان الزحام شديدا، والحر أشد، وبعد انتهاء المحاضرة والإجابة على بعض الأسئلة، طلبت من الحضور ألا يرهقوا فضيلته بالسلام والمصافحة حتى لا نجهده، ولا نجمع عليه حر الجو وحر الازدحام، ومع ذلك حين طلب إليه نفر من قريته "صفط تراب" أن يسلموا عليه ويتحدثوا إليه، هممت لأعتذر لهم، ولكنه بادر بالموافقة ووجدته يحن لبلدته وأهلها، وموطن ميلاده حين سمعهم يقولون: نحن من صفط تراب، وقد كانوا ماهرين، حين عرفوا كيف يلفتون انتباه الشيخ وسط الزحام والحر، وكان ذلك منه - أيضا- وفاء وإكراما لأهل بلدته وجبرانا لخاطرهم، وكأنه يقول بلسان الحال أمام الجميع: أنتم لكم خصوصية لأنكم أهل بلدتي.حضرت مع فضيلته في بيته بمصر حين زاره رئيس وأعضاء مجلس إدارة صحيفة الأهرام وهيئة تحريرها للاعتذار عن مقال الأستاذ عبد الناصر سلامة رئيس التحرير، الذي أساء فيه إلى الشيخ القرضاوي والدكتور محمد البرادعي، وقبل الشيخ القرضاوي اعتذارهم، ولكنه اشترط اعتذارا مماثلا للدكتور محمد البرادعي، وإن اختلف معه في الرأي والفكر، معللا ذلك بأن الأخلاق لا تتجزأ.كانت عندي محاضرة بإحدى الكليات في وقت متأخر، ونظرا لبعد مكان إقامتي نسبيا عن مكان العمل، فقد فضلت أن أبقى في المكتب بعد انتهاء وقت الدوام، حتى يقترب الموعد وأنزل مباشرة إلى حيث قاعة المحاضرة، وصليت المغرب مع فضيلته جماعة في المصلى في الطابق العلوي بمنزله، وعلم أنني سأمكث قليلا حتى يحين موعد المحاضرة، ثم سلمت عليه، وطلبت له المصعد لكي ينزل إلى مكتبه في الطابق الأرضي، واستكملت أنا مراجعة محاضرتي، ولكني فوجئت بصعود الشيخ مرة أخرى، وبيده علبة من التمر، متجها إلى حيث أجلس، فهرعت إليه حتى يتوقف، وهو يقول: كل من هذا التمر حتى تستطيع أن تلقي محاضرتك، إلى أن تعود إلى البيت.كان إذا علم بمرض أحد العاملين معه، أو أحد من أهل بيته سواء كان ابنا أو زوجة أو أما، يطمئن عليه ويسأل عنه، ويدعو للمريض، وإذا مات أحد أقارب أبنائه العاملين معه يصلي عليه صلاة الغائب، بل كان يصلي صلاة الغائب على موتى المسلمين جميعا من آن إلى آخر.هذه سطور من صفحات في كتاب كبير يعنون له بـ"إنسانية القرضاوي".