13 سبتمبر 2025
تسجيلناقشنا في المقال السابق خصائص "الشخصية المحافظة" التي دفعت الكثير من المصريين إلى التصويت بـ "نعم" على التعديلات الدستورية. وكما يفهم الجميع فإن تصويت هذه الكتلة بـ"نعم" لم يكن يعني مجرد الموافقة على التعديلات الدستورية، وإنما أيضا الموافقة على الانقلاب ونتائجه، وعلى رأسها احتمال قيام قائد الانقلاب بالترشح للرئاسة، ما يعني التأسيس لمرحلة جديدة من الحكم الفاشي.ويعد الربط بين "الشخصية المحافظة" وبين تمهيد الطريق أمام الفاشية ربطا غير متعسف، فالأفكار المحافظة تمثل بيئة حاضنة مثالية لنمو الفاشية السياسية، فالمحافظون لا يمانعون من القبول بأوضاع وترتيبات سياسية منحرفة، بحجة أن السلطة أعقد من أن يحيط بتفاصيلها الإنسان العادي، ومن هنا لا مناص من تقديم الولاء والإذعان لها على صورتها التي هي عليها. والتطبيق المتطرف لهذه الأفكار ينتقل بها من الحفاظ على المجتمع وحماية استقراره إلى رعاية الشمولية، وتمهيد الطريق أمام الفاشية. تماما كما حدث في أوروبا في أعقاب الثورة الفرنسية، حيث أدى خوف النخب المحافظة على قيم المجتمع الكاثوليكي إلى احتضان الأفكار الفاشية التي نظروا إليها على أنها الضمانة المثلى لحماية المجتمع من تداعيات ما بعد الثورة.وبنفس هذا المنطق يتم حاليا تحضير المسرح السياسي في مصر لاستثمار النزعة المحافظة لدى قطاع واسع من الناس لتمرير مشروع سياسي فاشي، يحاول ليس فقط إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل ثورة يناير، ولكن تصميم نظام سياسي مصمت، لا يسمح بأي أجواء من التعددية أو الاختلاف في الرأي. والفاشية — كما يعرفها المختصون — هي عقيدة سياسية شمولية ازدهرت في فترة ما بين الحربين العالميتين، وتشير الكلمة حرفيا إلى القضبان التي كان قضاة الإمبراطورية الرومانية يستخدمونها لتأديب الناس، حيث ينظر الفاشيون إلى أنفسهم على أنهم وكلاء عن الشعب لتخليص بلدانهم من أزماتها، وتحضيرها لمستقبل أفضل تستعيد من خلاله "عظمتها الوطنية".والنزعة الفاشية في الحكم لا تفعل أكثر من أنها تذهب بالأفكار المحافظة إلى أقصى مداها. فهي تؤكد على أولوية المجتمع على الفرد، وتدعو الأفراد إلى نسيان مطالبهم الضيقة والذوبان في المجموع، وذلك على اعتبار أنه لا وجود لما يسمى بالحقوق الفردية، فـفي البدء كانت الدولة، وما الحديث عن الفرد وحقوقه سوى معاول هدم للمجتمع، فالفرد ليست له حقوق مجردة، وإنما له فقط حقوق اجتماعية، ترعاها الدولة التي هي أدرى بها منه. وعلى هذا الأساس تحط الفاشية من القيم اللصيقة بالفرد، كما تجحد حقوق كافة الجماعات الأقل اتساعا من الوطن. ولا بأس عند اللزوم من التضحية ببعض الأفراد أو الجماعات من أجل أن يشعر "مجتمع الوطن" بالاستقرار.وترجع جاذبية الأفكار الفاشية لدى العامة إلى نزوعها لتبسيط تعقيدات الحياة السياسة، واختزالها للجدل السياسي في مجموعة من العبارات المسطحة، فهي تقسم الطيف السياسي الواسع وفقا لثنائية هم ونحن، وفي إطار هذه الثنائية البسيطة يتم تحميل الطرف الآخر (هم) كافة الأخطاء والمشاكل التي يعاني منها الوطن، فرغم كونهم أقلية، إلا أن تأثيرهم السلبي يفسر كافة مظاهر القصور التي تتسبب في تراجع مكانة الوطن! كما يفسر الفاشيون أزمات الوطن بتمسك البعض بأفكار الديمقراطية التعددية (التمسك بفكرة الشرعية في الحالة المصرية)، على اعتبار أنها تفتح الباب أمام مجادلات لا طائل من ورائها، والأسوأ أنها تفتح الباب أمام "المخربين" للوصول والاستيلاء على السلطة. ومن هنا تقدم أنظمة الحكم الفاشية نفسها كضامن للانضباط والاستقرار الاجتماعي من خلال القضاء على عيوب كل من الديمقراطية والتعددية. ففي مواجهة بطء الديمقراطية تتبنى الأنظمة الفاشية سياسة الإجراءات السريعة والقرارات الحاسمة، وفي مواجهة التعددية السياسية تؤكد الأنظمة الفاشية على أفكار التضامن الوطني ومحاصرة المعارضة. وبشكل عام تظهر الأنظمة الفاشية تبرما شديدا بفكرة المعارضة وذلك بزعم حرصها على الوحدة ورغبتها في التخلص من الصراعات الجانبية بين الأطراف السياسية المتجادلة، بالإضافة إلى رغبتها في تحقيق نظام أخلاقي جديد يحل محل النظام القديم الذي فقد مصداقيته بفعل هيمنة الجماعات "المنحرفة" عليه.وتحتفي الأنظمة الفاشية بالعنف، ولا تراه فقط مبررا ولكن تراه مشروعا لتحقيق أهدافها. وما يجعلها كثيرة اللجوء إلى العنف أنها تعتبر أن معارضيها أقل من أن يعارضوها أو يتحدوا إرادتها، فإذا فعلوا فإنهم يستحقون معاملة خشنة وقاسية، قد تصل إلى حد إبادتهم إذا لزم الأمر.ولما كانت الأفكار الفاشية تزدهر عادة في مراحل الاضطراب الاجتماعي وتجارب الديمقراطية المتعثرة، كان من الضروري في الحالة المصرية أن يتم إعداد المسرح لذلك، من خلال اختلاق حالة من المعاناة المفتعلة والفشل المقصود الذي نسب في مجمله إلى التجربة الديمقراطية وممثليها في الحكم الدكتور محمد مرسي وجماعة الإخوان، وذلك حتى يتأهل الناس للقبول بالنظام الفاشي، ويقبلوا بكافة الانتهاكات التي تحدث تحت مظلة حكمه، ويرفضوا من ثم عودة أجواء التعددية، اللهم إلا التعددية المحكومة من أعلى، وهذا ما دخلت البلاد في طوره بالفعل منذ حدوث الانقلاب وحتى تاريخ ظهور نتيجة الاستفتاء على وثيقة شرعيته المزعومة المسماه بالدستور الجديد.غير أن العلاقة العضوية بين الأفكار المحافظة والنزعة الفاشية في الحكم عادة ما تنتهي بالمجتمع إلى نتائج مأساوية، فالسلطة وفقا لهذه المنظومة تكتسب طابعا مقدساً، بحيث لا يمكن إدانة ما ترتكبه من فظائع، وبسيادة النزعة الفاشية في المجتمع تتراجع قيم المساواة لتحل محلها فكرة التسلسل الهرمي والقيادة العليا، ويحل منطق القوة بدلا من قوة المنطق، ويختفي الكلام بشكل تدريجي عن سيادة الشعب أو الحكم النيابي، لتدار مؤسسة الحكم من قبل القائد الأوحد الذي يحتكر الحديث باسم الشعب. فهل هذا المصير القاتم هو ما ينتظره المصريون، أم أن الأيام القادمة حبلى بشيء مختلف؟