14 سبتمبر 2025
تسجيلفي المقال الفائت سردنا قصة الفاروق عمر – رضي الله عنه – مع الصحابي الجليل سعيد بن عامر، الذي أراد عمر منه إدارة ولاية حمص، واعتذر بادئ الأمر سعيد من تلك المسؤولية خوفاً من فتن الدنيا، فما كان من الفاروق إلا أن شدد عليه وأوضح له الرؤية الشرعية السديدة في الخطوة التي أرادها، فاتضحت لسعيد الأمور وتولى إدارة حمص، فكان خير الولاة الذين مروا على تلك الحاضرة وبشهادة أهلها، الذين لم يكن ليستقر حاكم عندهم بسبب مزاجهم الصعب، فكان سعيد الرجل المناسب للمكان المناسب وفي الوقت المناسب. لنتساءل من بعد ملخص المقال الفائت ونقول: في القصة الماضية، رأينا الرئيس يرشح أحد الرعية لتولي منصب ما، ودار ما دار بينهما، وهو الأمر الطبيعي في كافة المجتمعات والثقافات. لكن ماذا لو يحدث العكس، كأن يطلب شخص ما من الرئيس أو المسؤول أو صاحب القرار في أي كيان كان، تولي منصب معين أو إدارة مؤسسة ما أو وزارة أو شركة أو غيرها.. كيف سيكون الأمر؟ بطبيعة الحال لا أقصد أن يكون ذاك الشخص أي أحد، بل شخص وجد في نفسه الكفاءة والقدرة والمهارات اللازمة لتولي إدارة مصلحة ما، سواء كانت على شكل وزارة أو شركة أو غيرها من كيانات العمل المتنوعة أو المسؤوليات العديدة في قطاعات أي دولة، وقام بترشيح أو تزكية نفسه عند صاحب القرار، لقناعته وثقته بأنه سيكون أفضل من الذي يتولى المنصب الذي يرى صاحبنا أنه أهل له، انطلاقاً من أصل تاريخي متمثل في قصة النبي الكريم يوسف عليه السلام مع الملك وحيرته في إيجاد الشخص المناسب لتولي أمر اقتصاد البلاد في أزمة متوقعة، وكيف أنه عرض نفسه على الملك وقال له ( اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ). كان النبي يوسف – عليه السلام – كما يقول سيد قطب في ظلاله:" حصيفاً في اختيار اللحظة التي يستجاب له فيها لينهض بالواجب المرهق الثقيل ذي التبعة الضخمة في أشد أوقات الأزمة؛ وليكون مسؤولاً عن إطعام شعب كامل وشعوب كذلك تجاوره طوال سبع سنوات لا زرع فيها ولا ضرع. فليس هذا غُنماً يطلبه يوسف لنفسه. فإن التكفل بإطعام شعب جائع سبع سنوات متوالية، لا يقول أحد انها غنيمة. إنما هي تبعة يهرب منها الرجال، لأنها قد تكلفهم رؤوسهم، والجوع كافر، وقد تمزق الجماهير الجائعة أجسادهم في لحظات الكفر والجنون". هل يمكن تقبّل مثل هذا السلوك في زمن مثل زمننا؟ بشكل عام، صار المتعارف عليه في كثير من الثقافات أن الساعي إلى ولاية أو سلطة، فإنما غالباً يرجو مصلحة ما من وراء ذلك، وحتى يحقق مراده فإنه سيزكي نفسه بكل صورة ممكنة.. وبسبب هذا المنطق السائد، نجد أن طالب الإمارة أو الرئاسة لا يُلتـفت إليه، بل إن الريبة والشك ستكونان حاضرتين من فورهما عند صاحب القرار وهو يسمع منه مثل هذا الطلب.. إلا إذا كان صاحب القرار ذا فراسة سليمة وقوة حدس عميقة تدعوه إلى الاقتناع بأن هذا الإنسان، وبدلاً من تجاهله، يتم الانتباه إليه، ولعل هذا هو ما حدث بين الملك والنبي يوسف عليه السلام. الملك لم يَرتَب في يوسف – عليه السلام – ولم يشكك في قدراته أو بحث عن سوابق له في السجلات المدنية وخلافها، بل فكّر وقدّر من بعد أن وجد أهم المعايير في أي مسؤول يتولى إدارة مصلحة ما، وهو الأمانة، وقد رأها عملياً في يوسف الصديق. لقد أعجبته تأويلاته لرؤياه، وأعجبته أمانته في قصته مع النسوة، وأعجبته أكثر وأكثر خططه لمواجهة كارثة حقيقية قادمة، والتي خاف منها وارتعب وهو يرى أمامه خمس عشرة سنة قادمة لا يدري كيف ستكون.. إن مثل هذه الأزمات كما أسلف الأستاذ سيد قطب، يهرب منها الجميع لصعوبتها وقسوتها. إذ لا توجد ضمانات كافية للنجاح في إدارتها، وبالتالي ستكون نتائجها وبالاً على من يتولى الأمر، وقد ينتهي به الأمر إلى الإقصاء أو ربما أشد.. فأي مسؤول يطلب الفواجع والكوارث لنفسه؟ غالباً لا أحد، إلا ما رحم ربي من الشجعان وقليل ما هم. ذلك أن الغالبية تطلب إدارة ما يمكن الاستفادة منها والتكسب من ورائها مادياً ومعنوياً..من أموال وترقيات ومناصب وشهرة وسمعة. فهكذا هي النفس البشرية، تبحث عن الأسهل والأيسر. حتى لا نتعمق كثيراً في الموضوع.. نطرح تساؤلاً ها هنا يقول: هل يجوز أن يزكي الإنسان نفسه كما فعل النبي الكريم يوسف – عليه السلام؟ وكيف يمكن أن نوفق بين ما جرى معه من ناحية، وبين ما جرى مع الصحابي الكريم أبي ذر الغفاري حين سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الولاية، فما كان من الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – إلا أن قال له:" يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها ". أي أن طلبه تم رفضه، وهو الأمين الورع. لكن صاحب القرار في الدولة، بفراسته ومعرفته بالرجال، رفض الأمر. في الحالة الأولى، وافق الملك على طلب يوسف – عليه السلام – وقبل تزكيته لنفسه، ولم يكن يعرفه بعدُ بالشكل الكافي المقنع لتولي أخطر منصب في عهده. أما الحالة الثانية فقد كان الرفض رغم أن النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – على علم بأبي ذر وشخصيته وصفاته، فلماذا رفض منحه الإمارة؟ لاحظ أن الحديث صحيح، لكن لا يمكن تعميم ما جاء فيه من توجيه ضمني، على كل الظروف والأشخاص. بمعنى أن الإمارة أو طلب المسؤولية هو فعلاً خزي وندامة، إذا سعى وراءها من هو ضعيف عليها، علمياً وإدارياً وقيمياً. بمعنى آخر أكثر وضوحاً، أنه لا شيء في أن يزكي المرء نفسه عند صاحب القرار، إن كان يرى في وجوده في منصب ما، لصالح البلاد والعباد.. ولمزيد توضيح: لا بأس من التقدم للمناصب والوظائف المهمة التي تمس حاجات وهموم الناس بشكل مباشر، لمن يعتقد جازماً في نفسه أنه أهلٌ للمنصب، تشفع له سيرته الذاتية مع خبراته وعلمه وأمانته وإخلاصه.. إنه دون شك، ليس عملاً صحيحاً ان كل من تقدم لطلب المسؤولية يُرفض، بل الأصل أن يتم النظر لكل حالة على حدة، وفق آليات معينة، هذه نقطة أولى. النقطة الثانية نرى أنه من عدم الأمانة – كما أسلفنا في المقال الفائت - التهرب من المسؤوليات الحساسة وقت الحاجة، لأن هناك الكثير من الأكفاء في أي مجتمع، جديرون بتولي المسؤوليات. لكن تواضعهم ورغبتهم في البعد عن الأضواء والشهرة وكل ما يمكن أن يخدش أمانتهم مستقبلاً، تجدهم يتوارون عن الأنظار وفي اعتقادهم أن مثل تلك المسؤوليات خزي وندامة، كما جاء في قصة أبي ذر الغفاري رضي الله عنه. أما النقطة الثالثة وهي الأهم، تتعلق بدور صاحب القرار ومن معه في الإدارة والمسؤولية. وأهمية البحث المستمر عن الكفاءات والكوادر الأمينة المخلصة في المجتمع، بحيث يتم اسناد المسؤوليات أو - الأمانات إن صح التعبير- إليهم، ومن لم يتم استعماله في أي مهمة بعد، يتم إدراجه ضمن قائمة المؤهلين لشغل المناصب والمهام الكبيرة مستقبلاً. حتى تتضح الصورة أكثر. لابد أن تكون هناك آليتان في أي كيان عمل. الآلية الأولى تتعلق بالبحث المستمر من الطرف المسؤول عن الكفاءات في المجتمع. والآلية الثانية تتعلق بالكفاءات المجتمعية وضرورة التقدم لأداء الأمانات وتزكية نفسها لدى الطرف المسؤول. لب الحديث يتمثل في أن أي تكاسل من أي طرف في هذا الأمر، هو إضاعة للأمانة.. تلك الأمانة التي سأل عنها الصحابة الكرام، وكيف تكون إضاعتها؟ فقال لهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم:" إذا وسّد الأمر إلى غير أهله". [email protected]