11 سبتمبر 2025

تسجيل

الانتخابات التونسية وعقدة الاستقطاب الثنائي

21 نوفمبر 2014

تجرى يوم الأحد 23 نوفمبر الجاري، الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية التونسية، إذ تقدم 27 مرشحا لهذه الانتخابات من بينهم الرئيس السابق المنصف المرزوقي، والقاضية كلثوم كنو، ووزراء من عهد زين العابدين بن علي الذي أطاحت به ثورة شعبية في 14كانون الثاني/يناير 2011 بعد 23 سنة في السلطة.. ويفترض تنظيم جولة ثانية من الانتخابات في نهاية ديسمبر المقبل في حال لم ينجح أي من المرشحين في الحصول على الأغلبية المطلقة في الجولة الأولى.وهذه هي المرة الأولى التي يخوض فيها التونسيون انتخابات لاختيار رئيسهم، فمنذ الاستقلال في عام 1956 وحتى الثورة، لم تعرف تونس سوى رئيسين هما الحبيب بورقيبة الذي انقلب عليه رئيس وزرائه بن علي في 7 نوفمبر 1987 ثم بقي في قصر قرطاج حتى هروبه إلى المملكة العربية السعودية في 14 يناير 2011.. وبهدف تفادي الجنوح مجددا نحو حكم تسلطي، حدّ الدستور الذي تم تبنيه في بداية سنة 2014 من صلاحيات الرئيس المقبل الذي لا يملك صلاحيات كبيرة وفق ما نصّ عليه الدستور، حيث باتت السلطة التنفيذية في يد رئيس الوزراء المنبثق من الأغلبية البرلمانية، لكن الرئيس القادم يحوز على صلاحية خطيرة وهي صلاحية حل البرلمان وفق الفصل 77 من الدستور، وكذلك تقديم مقترحات لتعديل الدستور وفق الفصل 143 من الدستور، ولعل هذه الصلاحية هي مكمن الصراع اليوم على منصب رئيس الجمهورية فالشق الإسلامي يخشى المس من الدستور إذا وصل رئيس حداثي إلى قرطاج والشق الحداثي يخشى أيضا من تعديل الدستور وبالتحديد يخشى من التخلّي عن حرية الضمير وفق الفصل السادس.قبل خمسة أيام من انطلاق الانتخابات الرئاسية بلغ عدد الانسحابات من السباق أربعة إلى حد الآن، مع وجود نية لدى البعض في إعلان انسحابهم، وهؤلاء المنسحبون هم: محمد الحامدي مرشح التحالف الديمقراطي، وعبد الرحيم الزواري مرشح الحركة الدستورية قبل بداية الحملة الانتخابية، وكل من المرشحين المستقلين مصطفى كمال النابلي ونور الدين حشاد.أسباب الانسحاب والدوافع بدت مختلفة مقارنة بالانسحابين الأولين إذ كانت نتيجة الانتخابات التشريعية سببهما المباشر في ذلك، إلا أن انسحاب النابلي وحشاد، في تعليقه على هذين الانسحابين الأخيرين، قال المنسق العام لشبكة «دستورنا» في تصريح لإحدى الإذاعات الخاصة إن انسحاب مصطفى كمال النابلي هدفه البحث عن تموقع جديد له من خلال التفاوض حول منصب حكومي جديد بعد اقتناعه بأنّ حظوظه في الرئاسية ضئيلة. وأضاف أن انسحاب نور الدين حشاد كان متوقعا باعتبار أن ترشحه كان رمزيا. القضية المتداولة بين مختلف المترشحين، وعلى صعيد أجهزة الإعلام التونسية المكتوبة والمسموعة والمرئية، هي مسألة الخوف من الاستقطاب الثنائي، والتغول في إشارة واضحة إلى فوز حزب نداء تونس في الانتخابات التشريعية، وزعيمه السيد الباجي قائد السبسي المرشح الأوفر حظاً في الفوز في هذه الانتخابات الرئاسية منذ الدورة الأولى.. ويثير هذا الاستقطاب الثنائي للمشهد السياسي التونسي العديد من المخاوف لدى الشعب التونسي، لأنه يسهم في تكريس انقسامات أفقية وعمودية للمجتمع التونسي، رغم أن البعض من النخب التونسية، ترى أن هذا الاستقطاب الثنائي هو ضمان لاستقرار البلاد، حيث إن وجود قطبين (حزب نداء تونس العلماني، وحركة النهضة الإسلامية)، وبغض النظر عن طبيعتهما، يجعلان من التداول السلمي على السلطة أمرا ممكنا لا إمكانا نظريا فقط، لذلك كان المشهد الذي نتج عن انتخابات 23 أكتوبر 2011 مختلا، بينما المشهد الحالي – وبغضّ النظر عن صاحب المرتبة الأولى من الثانية – أكثر ملاءمة لحصول التداول السلمي على السلطة وكنا سنفزع لو انهارت حركة النهضة مثلا وأصبحنا في مشهد شبيه بذلك الذي أفرزته انتخابات 23 أكتوبر 2011 ولكن بصفة معكوسة.. فالديمقراطية بحاجة إلى وجود حزبين أو تحالفين كبيرين متعادلين وإلا كان التداول السلمي على السلطة هراء لا معنى له.. لقد جاءت نتائج الانتخابات التونسية مخيبة لآمال حركة النهضة، وكانت بمنزلة «تسونامي» زلزل الخريطة السياسية في تونس، وجرف أمامه مشاريع عدد من الأحزاب السابقة سواء الحليفة لحركة النهضة أو الحليفة لحزب نداء تونس، واحتلت النهضة المرتبة الثانية، بعد أن احتلت المرتبة الأولى في انتخابات 23 أكتوبر عام 2011، وبذلك قلبت هذه الانتخابات كل المعادلات السياسية القائمة، حالياً وأظهرت من جديد قوة «المجتمع التونسي المنفتح والعلماني » العائدة بصورة لافتة بعد فشل ما يسمى «ثورات الربيع العربي» . بعد إخفاق الإسلام السياسي في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وفوز حزب نداء تونس، الذي يريد أن يبرز هويته السياسية على أنها انبعاث للبورقيبية في ثوب ديمقراطي جديد، طفت من جديد الوطنية القطرية، التي تعني العودة إلى الاستثمار في القطر ودولته، واكتشاف الهوية التونسية، والعمل على تزويدها بمعنى ودلالة إنسانية.. ويشكل هذا تطلعا جديدا إلى المستقبل يهدف إلى بناء الأمة بمفهوم "المواطنة". وفي هذا السياق، ينبغي أن نفهم معنى إعادة تثمين الوطنية التونسية الدستورية لحقبة ما بعد الاستقلال، واكتشاف مرجعية حقوق الإنسان، والديمقراطية. وفيه أيضا ينبغي أن نفهم عداء كثير من الإسلاميين المنضويين في حركة النهضة، وحلفائهم، للتيارات الديمقراطية التي تبدو وكأنها تساهم في إبعاد الفكرة الإسلامية أكثر عن الساحة أو الحلول محلها، وطرح مشروع يحيدها أو يثمن الدولة القطرية ويلغي أفق الإسلام السياسي، أو يضعفه. يبدو الخيار الديمقراطي في نظرها، بل في نظر الكثير من أنصار الديمقراطية أيضا، تعويضا وربما بديلا للخيار الإسلامي. ويثير نتيجة ذلك رد فعل قويا لدى أولئك الذين يخشون أن يكون المشروع الديمقراطي في النهاية "حصان طروادة" لترسيخ العلمانية، وإبعاد الخيار الإسلامي إلى عالم النسيان. ومن الأفكار الجديدة القديمة الناشئة في حضن أزمة الاستقطاب الثنائي في تونس، تنامي العصبيات الجماعية على أساس جهوي، حيث إن الشمال بات يصوت لحزب نداء تونس، والجنوب لحركة النهضة وللمرشح المنصف المرزوقي.. وهي تبدأ على شكل حزازات وانقسامات ونزاعات جزئية، ولا تلبث حتى تكتسب معاني ثقافية وسياسية، وتصبح مرجعية وهوية قائمة بذاتها يعرف الفرد التونسي نفسه من خلالها وبها. هكذا يعاد اكتشاف قيمة الاختلاف الجهوي وتحويله إلى قاعدة تضامن مستقل بين الأفراد، أي إلى أساس رابطة مجتمعية، جمعية سياسية أو شبه سياسية.. تسعى الجهوية بذلك إلى التعويض الجزئي أو الكلي عن غياب التضامن والترابط الاجتماعي العموميين. وهي تعبر عن إخفاق السياسة الوطنية في عهد النظام السابق في بناء إطار تضامنات فعلية وطنية ما فوق جهوية، أي بناء دولة وطنية ديمقراطية. وهذا أيضا ما يعكسه انبعاث العشائرية والجهوية في تونس: أي الاستثمار في القرابات المادية، الحقيقية أو الموهومة، والعشائرية والجهوية هي عودة إلى العصبية الطبيعية، الدرجة الأبسط والأغشم من الترابط الاجتماعي.. ومن الأفكار أو الأيديولوجيات الجديدة التي تسعى إلى وراثة الفكرة الإصلاحية التونسية المتوارثة منذ القرن التاسع عشر،هي ما يروجه حزب نداء تونس على أنه حامل للفكرة البورقيبية الدستورية وما تعرض نفسها على أنها نزعة كونية وإنسانية وتنويرية ترفض الانتماء الجزئي وتنادي بالاندماج في عالم الحداثة، التي تنظر إليها كحداثة قياسية، واحدة وتوحيدية.. وتركز من خلالها على العلمانية بوصفها جوهر الحداثة وعقيدة أو خيارا يتجاوز أو يرتفع على الهوية القومية والدينية، على العروبية والإسلاموية والطائفية والعشائرية في الوقت نفسه.