11 سبتمبر 2025

تسجيل

إنه الأب

21 سبتمبر 2020

كلمة من حرفين قريبين من بعضهما، الألف والباء، ولم يأتيا هكذا، وإنما لأمر ما لا يعلمه إلاّ الله تعالى، فالأب له أحادية الحقوق، وللأم ثلاثية الحقوق، وكل ذلك لحكمة. فالأب يلقى في دروب حركة الحياة المتاعب والمصاعب والمعاناة، ثم بعد ذلك يلام إذا قصر أو أخطأ، ماذا هذا الجفاء في حقه؟ ولا نعرف قيمة وجوده إلاّ بعد أن يرحل عنا، ويبقى البيت من غيره لا سند ولا عضد مهما حاولنا. وأكاد أجزم هنا- وأرجو التصحيح إن كنتُ مخطئاً في هذا الطرح والتوضيح- ما سمعتُ يوماً أن خطيب جمعة أو محدثاً في المسجد ألقى درساً أو قال موعظة عن الأب فقط، أو أقيمت ورشة عمل اجتماعية تحدث الجميع عن الأب، أو حتى جعلناه قيمة تربوية في مدارسنا؛ نحث ونزرع ونؤكد هذه القيمة لطلابنا وطالباتنا، مع الأسف الشديد لم نعط هذين الحرفين حقهما البتة، فقط يتحدثون عن حديث "مَن أَحَقُّ النَّاسِ بحُسْنِ صَحَابَتِي؟ "، فيسترسلون في بيان الحق الثلاثي، ولا يسترسلون بالحديث عن صاحب الحق الأحادي الأب،! هل هو ضعف في خطيب الجمعة أو من يعطي درساً في أنه لا يستطيع التحدث عنه ويجد صعوبة ومشقة؟، لأن الأب صاحب الحرفين القريبين (الألف والباء)، والأم صاحبة الحرفين المتباعدين (الألف والميم). عجيب وغريب أمر هؤلاء ممن يتصدرون المنابر والوقوف أمام مكبرات الصوت وكراسي مهنة التعليم، أو ممن يحملون شهادات عليا، أو ممن يقول عن نفسه إنه استشاري تربوي أو اجتماعي أو نفسي أو إعلامي مشهور!. ومن لم يعرف قيمة الأب لا يعرف قيمة الحياة، فالأب نعمة من نعم الله سبحانه الكبرى، ومن يُدرك حقيقة هذه النعمة ومعانيها ويعيش في كنفها وجمالها، يحصل له الخير، قال أبو الدرداء رضي الله عنه سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "الوالدُ أوسطُ أبواب الجَنَّة"، فإنْ شئتَ فأضِعْ ذلك الباب أو احفظْه". فلا تُختزل هذه النعمة بقبلة على رأسه، أو بهدية تعطيها إياه؛ لتدخل الفرحة والسرور عليه، أو بزيارة يومية له، أو بالجلوس معه، كل هذه المعاني والقيم العملية الإيجابية وغيرها من صور الخير التي تمارسها أنت في حق الأب، فهو قد سبقك وقدمها لك عن محبة ووفاء أضعاف أضعاف ما تقدمه أنت. فأين أنتَ وأنتِ من نصحه لك؟ وأين أنتَ وأنتِ من مساندته في جميع الأوقات في الرخاء والضراء ؟ وأين أنتَ؟ وأين أنتِ؟. ومن جماليات هذين الحرفين إنهما يتحركان معك حتى بعد رحيله - حفظ الله الآباء الأحياء وبارك في أعمارهم وأعمالهم، ورحم الله من رحلوا عنا وأسكنهم فسيح جناته -، فتتواصل معانيه إذا أحسنتَ وتحركتَ معه، فهل تُدرك ذلك وتدركين ذلك؟، فقد أدرك ذلك الجيل الفريد رضي الله عنهم وأرضاهم هذه المعاني وفواتح الخير في هذين الحرفين المتقاربين، فاحسنوا صنعاً معهما، فعرفوا قدر هذه النعمة الإلهية وقاموا بحقها من الشكر والعرفان العملي، فقد روى عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَعْرَابِ لَقِيَهُ بِطَرِيقِ مَكَّةَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ وَحَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ كَانَ يَرْكَبُهُ، وَأَعْطَاهُ عِمَامَةً كَانَتْ عَلَى رَأْسِهِ. قَالَ ابْنُ دِينَارٍ فَقُلْنَا لَهُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ إِنَّهُمْ الْأَعْرَابُ، وَإِنَّهُمْ يَرْضَوْنَ بِالْيَسِيرِ! فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ أَبَا هَذَا كَانَ وُدًّا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ". وعَنْ أَبِي بُرْدَةَ الأسلمي رضي الله عنه، قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فَأَتَانِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما، فقَالَ: أَتَدْرِي لِمَ أَتَيْتُكَ.؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصِلَ أَبَاهُ فِي قَبْرِهِ، فَلْيَصِلْ إِخْوَانَ أَبِيهِ بَعْدَهُ" وَإِنَّهُ كَانَ بَيْنَ أَبِي عُمَرَ وَبَيْنَ أَبِيكَ إِخَاءٌ وَوُدّ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَصِلَ ذَاكَ. ومضة قال الإمام الشافعي رحمه الله أَطِعِ الإِلَهَ كَمَا أَمَرْ وَامْلأْ فُؤَادَكَ بِالحَذَر وَأَطِـعِ أَبَـاكَ فَإِنَّـهُ رَبَّاكَ مِنْ عَهْدِ الصِّغَرْ فدروس هذين الحرفين (الألف والباء) لا تنتهي، ولن تعرف قدرهما حتى تستشعر القيم والمعاني والمباهج التي تحيط بهما، لترى بعد ذلك مساحات وأثر الخير عليك وعلى من حولك. (إنه الأب) ذلك الدرس الكبير!. [email protected]