15 سبتمبر 2025
تسجيللم يكن أكثر المحللين تشاؤما يتوقع أن ترتد الثورة المصرية إلى هذا المستنقع السحيق الذي تغرق فيه الآن. صحيح أن البعض قد توقع أن تشهد التجربة المصرية ما شهدته التجربة الأوكرانية من عودة النظام القديم من خلال "التصويت العقابي" احتجاجا على فشل قادة الثورة فى تحقيق أهدافها. لكن أن يتم الانقلاب على الثورة، وأن تتلوث البلاد بكل هذه المذابح وأعمال القتل الأهوج، وأن تدخل البلاد فى أتون حرب أهلية مصغرة، فهذا ما لم يكن يتوقعه ولا يتمناه أحد من المصريين. ففي أيام معدودة سجل الانقلابيون رقما قياسيا في المجازر التي ارتكبوها وهم بصدد فض الاعتصامات السلمية التي حاولت الاحتجاج على الإطاحة بالرئيس الشرعي المنتخب. وأصبحت أسماء هذه المذابح تتزاحم فى الذاكرة، بحيث صار الواحد بحاجة إلى بذل جهد لعدم الخلط بينها، فما بين مذبحة المنصة إلى مذبحة الحرس الجمهوري، إلى مذبحة رابعة إلى مذبحة النهضة إلى مذبحة رمسيس، إلى حصار مسجد الفتح، إلى تصفية المعتقلين بسجن أبي زعبل، يبدو الأمر كما لو كان كابوسا حقيقيا تعيشه البلاد. السيناريو المستخدم في هذه المذابح يعيد إلى الأذهان السيناريو الذي استخدمه العسكريون في الجزائر فى تسعينيات القرن العشرين، وتمثلت فكرته الأساسية في استباحة المعارضين عبر عمليات ممنهجة من الاعتقال والقتل العشوائي، في محاولة لجرهم إلى ساحة العنف، ودفعهم دفعا إلى مواجهة غير متكافئة مع قوات الجيش والشرطة. ومع أول حادثة يرتكبها المعارضون يتم إعادة إخراج الأزمة على أنها حرب شاملة على الإرهاب أو حملة مقدسة لمقاومة التطرف الديني. أما إذا لم ينجر معارضو الانقلاب إلى العنف وتشبثوا بسلميتهم، هنا يتم صناعة عنف مفتعل، ينسب إلى المعارضين، لخلق رأي عام معبأ ومشحون إزاءهم وإزاء مسئوليتهم المتخيلة عن الفوضي التي تغرق البلاد. كل هذا يسمح أن يكون رد فعل النظام الانقلابي انتقاميا بشكل أكبر ويزيد قدرته على تمرير ما يرتكبه من مجازر على نحو أيسر. كلمة السر في هذا السيناريو إذن هي شيطنة الخصوم، وتصويرهم على أنهم مجموعة من الإرهابيين القتلة الذين لا يستحقون أي رحمة أو شفقة، ومن ثم يصبح السحق الكامل هو الطريقة المناسبة الوحيدة للتعامل معهم. ووفقا لهذا السيناريو لا يكون هناك حد لشراسة العنف المستخدم، عبر استهداف المدنييين العزل، والتنكيل بالمصابين، والتمثيل بالجثث. فالهدف هو إلقاء الرعب في قلوب الناس من هذا التيار، وفي نفس الوقت ردع أنصاره عن الاستمرار في انتمائهم إليه. وعلى حد صاحب كتاب "الحرب القذرة"، كان شعار المرحلة الدموية هو "الجزائر مصابة بالغرغرينة لابد من البتر". وهكذا تم استخدام كارت العنف وتحريكه بأيد خفية، كما لجأ النظام إلى ممارسة إرهاب الدولة مع العمل عبر الماكينة الإعلامية لجعله مموها حتى ينسب إلى المعارضة أيضاً. وتحولت القوات المسلحة إلى قوات شرطية تقيم الحواجز فى الطرقات وتفتش المدنيين وتبث الرعب في قلوب السكان المحليين. وقد نجح عسكريو الجزائر فى تنفيذ مخططهم بدرجة كبيرة، حيث أدى الأذى البالغ الذي ألحقوه بأنصار المعارضة إلى إلجائهم إلى السلاح ومبادلة قوات الأمن عنفا بعنف، وأدت حالة انعدام الأمن ورهاب الفوضى إلى تشبث الجماهير بالانقلابيين بدرجة أكبر. وفي الخلفية كانت الحملات الإعلامية تعمل على أشدها لإحداث حالة من غسيل المخ، وتوجيه العقول ناحية عدو مصنوع. استيراد نفس السيناريو لتطبيقه في مصر لا يتوقع ان يحظى بنفس النجاح. فالمعارضة المستهدفة في الحالة المصرية ضاربة بجذورها فى المجتمع، ومن ثم فإن محاولة قمعها أو استئصالها على نحو كامل لن تتم بالنجاح الذي يتوقعه الانقلابيون. صحيح أن أنظمة سابقة قد شارفت على النجاح في ذلك، ولكن شتان ما بين استخدام هذه السياسة في الخمسينيات والستينيات، عندما كانت اللامبالة هي رد الفعل المتوقع من الجماهير، وبين استخدامها فى الألفية الثانية بعد أن عرفت الجماهير المؤيدة للشرعية أن بإمكانها أن تشكل جسدا واحدا لا أن تظل حبيسة كيانات معزولة عن بعضها البعض. من ناحية أخرى فإن الجبهة المعارضة للانقلاب تكتسب أنصارا جددا كل يوم بفعل سقوط المزيد من الضحايا بين صفوفها، ما يؤدي إلى تزايد التعاطف الشعبي مع مأساتها. كما أن سيناريو تشويه المؤيدين للشرعية وإلصاق الانتهاكات بهم لا يصاغ بالحرفية التي تقنع المتعقلين بأن معارضي الانقلاب قد تخلوا عن سلميتهم. ساعد على ذلك انتشار التوثيق المرئي "غير الرسمي" للحوادث والانتهاكات التي تنفذها قوات الأمن بحق المعارضين للانقلاب، هذا التوثيق يكشف على نحو شبه يومي التدليس الذي يمارسه الإعلام الرسمي والخاص بحق ما يشاع عن إرهاب المعارضة. من ناحيتهم لا يمتلك الانقلابيون فرصا عالية للنجاح، فهم يعيدون ارتكاب نفس الأخطاء التي مارسها من قبلهم حينما تصوروا أن بإمكانهم القضاء على إرادة الشعوب في الحرية. أما الدرس الأساسي الذي لم يستوعبه العسكر فهو أن الأفكار لا يمكن أن تقاوم بقوة الرصاص، فكل ضحية جديدة يسقطها العسكر ستشكل وقودا للفكرة التي يقاومونها. لقد اختار الانقلابيون العمل وفق جملة من الأساليب العتيقة، محاولين أن يعودوا بالزمن إلى الوراء، ومتحدين منطق التاريخ، ففي زمن شبكات التواصل الاجتماعي والفضائيات، يأتي هؤلاء بقواتهم الغاشمة، وإعلامهم الموجه، وخطابهم العنصري، لكي يحاولوا إعادة كتابة قواعد المنطق والعدالة والإنسانية وفقا لنسختهم شديدة القصور. فهل يمكن لانقلاب بهذه السطحية أن يقود دولة بحجم مصر ويعود بها عقودا إلى الوراء؟ يُرجى أن تكون الإجابة بالنفي.