11 سبتمبر 2025
تسجيلصلح الحديبية كان الأشهر في مجالس الصلح والقضاء قاطبة، وهو صلح ظاهره فيه الغبن للمسلمين وباطنه فيه المنفعة، وهو صلح تتجلى فيه إرادة الصلح، كما تظهر فيه مرونة التفاوض، وعدم النزول على رأي العامة إذا كان رأيهم يجانبه الصواب، فليست الأكثرية رأيها صائبا في كل الأحوال، وولي الأمر قد يرى تفاصيل لا يراها العوام ولا يمكن أن يفصح عنها، كما أن الموازنة في الصلح بين المصالح والمفاسد ينبغي أن تكون حاضرة، والمفاوض ينبغي أن تترك له مساحة من الحرية في التفاوض، وتكون هذه الحرية محاطة بخطوط حمراء لا يمكن تجاوزها بأي حال من الأحوال. أقول هذا ونحن في ظروف تتشابه كليا مع ظروف صلح الحديبية، فالنبي صلى الله عليه وسلم نظر في هذا الصلح إلى منافع كلية مستقبلية، ولم يقف عند جزئيات تفسد هذه المنافع الكلية، فهذا الصلح استفاد منه أولا أنه بات قوة في شبه الجزيرة العربية، واعترف به أعداؤه بعد مراثون طويل من الحروب والعداء، والثاني وهو الأهم أن النبي – صلى الله عليه وسلم- سيستطيع أن يزيد في قوته وبناء صفه الداخلي، والثالث وهو الأهم من السببين السابقين أن هناك فترة هدنة سوف يستطيع من خلالها إبلاغ رسالته للعالمين، وستنطلق الرسالة من المحلية إلى العالمية، تحقيقا لمراد الله له "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين". أما التوقف عند المكاسب المؤقتة مثل الذهاب للعمرة واكتساب مهتدين جدد من قريش إلى صف الدعوة فإن مكاسبها وقتية ولا تفيد الدعوة في مشوارها الطويل الذي ما زالت تخطو فيه خطوات أولى. وهنا تأتي مرحلة فارقة في تاريخ الدعوة الإسلامية، حيث إن من يقرر الدخول في الإسلام من قريش سيعلم أنه لن يستطيع الهجرة، ومن ثم إذا اقتنع بالإسلام وأراد أن يدخله فليعد نفسه لتحمل المشاق، وليكن جهاده في الفرار بدينه فيه نوع من الابتكار والإبداع، بحيث يكون قوة نوعية مضافة، وهنا يكون إسلامه أكثر فائدة، وهذا ما فعله أبو جندل وأبو بصير، عندما أسلما وذهبا بعيدا حتى لا ينقض النبي اتفاقه وقطعا طريق قريش التي استغاثت بالرسول – صلى الله عليه وسلم- لتطلب منه أن يلغي هذا الشرط، ومن ثم كان هذا الشرط مضيفا قوة للمسلمين، حيث إن من ينضمون إليهم لهم مهارات خاصة وقدرات إبداعية تمثل إضافة ولا تكون عبئا على الدعوة، أما من يرتد راجعا إلى قريش فلا فائدة منه، بل هو ضرر وشرر ينبغي التخلص منه، فلو كان في الصف الإسلامي ما زاد المسلمين إلا خبالا ولأوضعوا يبغون الفتنة وفي المسلمين من يسمع وقد يصدق. إن المنافع التي جناها المسلمون من صلح الحديبية سماها القرآن فتحا مبينا، يقول الزهري : فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه . إنما كان القتال حيث التقى الناس . فلما كانت الهدنة ، ووضعت الحرب أوزارها ، وأمن الناس بعضهم بعضاً ، والتقوا ، فتفاوضوا في الحديث والمنازعة ، ولم يكلم أحد في الإسلام يعقل شيئاً إلا دخل فيه . ولقد دخل في تينك السنتين ( بين صلح الحديبية وفتح مكة ) مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر . قال ابن هشام: والدليل على قول الزهري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الحديبية في ألف وأربع مائة في قول جابر بن عبد الله، ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف. والحديث موصول إن شاء الله غدا في رحاب مجالس الصلح والقضاء