19 سبتمبر 2025
تسجيلأفسد "الربيع العربي" علاقات تركيا مع عدد كبير من جيرانها المباشرين وألقى بظلال من الشكوك والخوف مع جيران أبعد. وعلى مدى سنوات تجاوزت العقدين ونصف العقد انشغلت تركيا بدولة واحدة أكثر من غيرها هي العراق. والعراق كان قبل حرب الخليج الثانية وتحرير الكويت الدولة الأولى في تجارته مع تركيا من بين العرب.ونصف تجارة تركيا العربية كانت مع العراق. ولم يبخل الرئيس السابق والراحل صدام حسين في أن يتعاون مع أنقرة منذ منتصف الثمانينيات والسماح للقوات التركية بالتوغل داخل الأراضي العراقية لمطاردة مقاتلي حزب العمال الكردستاني.ولم تتردد أنقرة في استغلال ذلك ولاسيَّما في فترة التسعينيات لكي تمارس رقابة على أكراد شمال العراق.فكانت عاملا تارة في تفريقهم وأخرى في المصالحة بين فصيلي جلال الطالباني ومسعود البرزاني، تبعا لما تمليها عليها مصالحها. عندما غزت القوات الأمريكية العراق عام 2003 كانت تركيا في مواجهة وضع جديد خصوصا أن سلطة جديدة كانت تظهر في تركيا هي سلطة حزب العدالة والتنمية التي انتهجت سياسات تتعارض مع السياسات الأمريكية في المرحلة الأولى من الغزو. فعوقبت تركيا من جراء ذلك بإبعادها عن أن تكون طرفا فاعلا في المعادلة العراقية. حتى "الورقة التركمانية" إن جاز التعبير لم تعد مؤثرة وقابلة للاستخدام من جانب تركيا. لكن مع تقدم العملية السياسية في العراق وإجراء انتخابات وإقرار دستور وإنشاء الفيدرالية واقتراب انسحاب القوات الأمريكية تعاملت حكومة حزب العدالة والتنمية مع الواقع الجديد بواقعية.ووفقا لسياسة جديدة تقول بأن على تركيا ألا تبقى في صفوف المتفرجين ويجب أن تنزل إلى الملعب، انخرطت تركيا في لعبة المصالح ودخلت بكل قوتها الاقتصادية في كل المناطق العراقية من البصرة جنوبا إلى أربيل والموصل شمالا مرورا ببغداد. وفتحت تركيا قنصليات جديدة لها في هذه المناطق. لم يكن التجاوب العراقي ولاسيَّما من حكومات إبراهيم الجعفري ونوري المالكي مع الانفتاح التركي بعيدا عن سياسة أنقرة في تصفير المشكلات مع دول الجوار ولاسيَّما سوريا وإيران. وبلغت ذروة الانفتاح والغزل الاقتصادي والسياسي ذروتها في صيف 2009 عندما وقع رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان اتفاقية مع المالكي شملت أكثر خمسين اتفاقية في خطوة غير مسبوقة وتم تأليف مجلس أعلى إستراتيجي مشترك لإدارة العلاقات بين البلدين. الأمر نفسه كان يحدث بين تركيا وسوريا بعد شهرين من ذلك. أفسد الربيع العربي خطوات التكامل بين تركيا والعراق كما بين تركيا وسوريا. وصول شرارة الثورات إلى سوريا وانحياز تركيا إلى المعارضة ووقوف المالكي إلى جانب النظام السوري كسر الفرصة التي كانت قائمة. وكما تحولت العلاقة التركية مع سوريا من صداقة وشراكة إستراتيجية إلى عداوة دموية خلال أقل من عدة أسابيع، كذلك تحولت العلاقات بين تركيا والعراق وبات كل طرف ينظر إلى الآخر على أنه تهديد. الجديد في الصراع القديم الجديد بين أنقرة وبغداد أن الحكومة التركية بدأت تلعب لعبة حساسة قد ترتد عليها في المستقبل. كانت تركيا تعتبر إقامة دولة كردية مستقلة في شمال العراق "سببا للحرب". اليوم لا توجد دولة كردية مستقلة لكن الواقع الكردي هناك لا يختلف عن أي دولة مستقلة إلا في بعض الارتباطات الدستورية والقانونية بالمركز بغداد. خطة أنقرة الجديدة هي جذب أكراد العراق إلى جانبها في تحالف يهدف إلى الإطاحة بحكومة نوري المالكي.والمفاجأة أن مسعود البرزاني قد وافق على الدخول في اللعبة التركية وتجاوز القوانين التي تحكم العلاقة مع بغداد ولاسيَّما في طريقة تصدير النفط. وإذا كان البرزاني يعتبر أن تصدير النفط مباشرة إلى تركيا خطوة ضغط على بغداد فإن موافقة تركيا على استيراده مباشرة من كردستان العراق دون المرور ببغداد يشكل خطأ قانونيا في العلاقات الدولية ولا يمكن اعتباره خطوة ضغط على بغداد من جانب تركيا. الخطوة التركية قد تقوي البرزاني وموقع أكراد العراق ليس في العراق فقط بل في المنطقة. تقع تركيا بين سندان معارضة المالكي للسياسات التركية في سوريا والمنطقة وبين مطرقة الأكراد الذين يتقدمون لتعزيز وجودهم وتأثيرهم في كل المنطقة.لكن تركيا تخطئ إذا ظنت أن أكرادها لن يستفيدوا من هذه اللعبة الحساسة وعلى حساب وحدة الأراضي التركية ولو بعد سنوات أو عقود.