11 سبتمبر 2025
تسجيلفي كتابه ذائع الصيت الموسوم «العالم مسطح» (بالإنجليزية The World is Flat) المنشور في عام 2005، لصاحبه الكاتب الأمريكي «توماس فريدمان» نجده يبدأ كتابه بسرد قصة زيارته إلى مدينة بنغالور الهندية المعروفة بـ»وادي السيليكون الهندي» ورؤيته لشركات تكنولوجية عالمية عملاقة بنت لنفسها فروعا كبيرة في تلك المدينة القائمة في جنوب الهند، بما يبعد عن العاصمة بألفي كيلومتر، غير أن امتلاكها لرؤوس الأموال الضخمة ووجود كبرى الشركات العالمية بها جعلاه يتيقن دعوى تكافؤ الفرص أمام دول العالم، إذ لم تبق رؤوس الأموال والشركات والصناعات حكرا على بضع دول متقدمة ومتطورة، حيث إن الكثير من الدول النامية بدأت تنافسها في مجالات وصناعات كانت تُعدّ لأمد طويل عصا سحرية لعالم الشمال، ومن هنا تراءى للكاتب أن العالم مسطح للجميع ومتساو أمامهم من حيث توفيره فرصا متكافئة لهم جميعا، وهو الأمر الذي تبجح به مؤيدو العولمة منذ زمن حيث رأوا فيها تحول العالم لقرية كونية تتفاعل، وتتواصل وتتاجر فيما بينها متمسكا ومدافعا عن الليبرالية في التجارة والأنظمة والسياسات التي بدأت تؤتي ثمارها، وبالتالي تمخض عنها خطاب فكري وثقافي وسياسي في عالم معولم، غير أن الخطاب ذاته بدأ يتزحزح ويضعف مع صعود الدول الآسيوية مثل الصين والهند وغيرهما التي شرعت تنفتح وتتطور وتتقدم إلى الأمام وتبني اقتصادات قوية وتتاجر مع دول العالم ما أكسبها قوة اقتصادية وسياسية كبيرة بدأت تتزاحم وتتنافس مع الدول المتقدمة، ومن هنا بدأت قواعد اللعبة تتغير، والقرية الكونية رغم شبكة علاقاتها المميزة بدأت تشوبها شوائب التناقض والتحيز ومحاولة الانفلات من قيم وفرضيات العالم المعولم. فها هو ذا الموقف الليبرالي ينهار أمام قوة الصين الإنتاجية للسلع وحشوها السوق العالمية بما فيها أسواق الدول المتقدمة في عقر دارها ببضائع وسلع رخيصة، فانتفضت لها تلك الدول ووجدت نفسها أمام مفاجأة ليست بسارة لها، إذ بدأت السلع والمنتجات الصينية الرخيصة في كميات هائلة تغزو ديارها فتترك صناعاتها المحلية في دوامة الاحتقان، وعلى شفا الخسارة الفادحة، ومن هنا نسمع في شكل شبه يومي فرض ضرائب جمركية فادحة على السلع الصينية تعلنها أكبر دولة مدافعة عن العولمة والتجارة الحرة التي طالما اختارتها الدول المتقدمة نموذجا يحتذى به. وفي خضم ردود الأفعال والتعليقات من الطرفين ظهرت خطابات وتصريحات تناقض الليبرالية والتجارة الحرة قلبا وقالبا، فالحمائية التي تبنتها بعض الدول تبدو متنافية مع روح المتاجرة الحرة التي دعت إليها العولمة وساندتها بكل قوة، ومما يبعث على الاستغراب أكثر هو التصريح الأخير الذي أدلى به العديد من القادة الغربيين حيث ادعوا أن قوة الإنتاجية المفرطة للصين لإنتاج السلع ومقدرتها الفائقة عليه تؤديان إلى تدني مستوى تنافسية مصانعها في مقابل المنتجات الصينية، الأمر الذي يدفع صناعاتها وشركاتها تواجه أخطار الخسارة الفادحة وعدم صمودها أمام بضائع صينية مما يهدد بإغلاقها ما لم تقدم لها حكوماتها الدعم المالي. ونظرا لذلك نرى أن الكثير مما تباهى به داعمو التجارة الحرة في الماضي لعله كان من باب الإكثار من جلب منافع اقتصادية كبيرة في وجه الصناعات الشحيحة والضعيفة في دول العالم الثالث، ولذا كان العالم «مسطحا» في نظرهم، أما الآن، ومع تغير الظروف فقد غدا العالم «دوّارا» فهل انقلب السحر على الساحر؟.