13 سبتمبر 2025
تسجيلتجري بريطانيا هذه الأيام تحقيقا حول أنشطة جماعة الإخوان وصلاتها بالتطرف والعنف، ومدى علاقاتها بتنظيمات محظورة في بريطانيا وخارجها، وذلك بطلب من حكومات عربية تسعى لحظر الجماعة ووصمها بالإرهاب للحيلولة دون انخراطها في الحياة السياسية أو قيامها بتهديد احتكار هذه الأنظمة للسلطة.لا يوجد شيء غير طبيعي في سلوك الأنظمة العربية التي تقدمت بهذا الطلب إلى البريطانيين، فهي أنظمة اعتادت ممارسة الاستبداد السياسي، وفي حال بروز خصم قوي يهددها فإنها تلجأ لا إلى محاولة هزيمته سياسيا ولكن إلى اعتقال أفراده واغتيالهم معنويا وماديا، وحين الضرورة — كما في حالتنا هذه — إلى مخاطبة الخارج للمطالبة بحظره وتوقيفه. لا يوجد شيء غير طبيعي في أداء أنظمة فقدت بوصلتها، ولم تعد قادرة على معرفة عدوها الحقيقي، فهذه الأنظمة في غمرة تمسكها بالحكم نسيت أن الإرهاب الحقيقي الذي يتهددها كان يصدر دوما عن مصدر واحد احتل الأرض وطرد منها سكانها، ثم هو يوجه ترسانة سلاحه النووي إلى جيرانه لابتزازهم وإخضاعهم. نسيت هذه الأنظمة كل هذا وتذكرت فقط أن هناك جماعة تهدد عروشها من خلال المنافسة السياسية النزيهة وهي بهذه الكيفية باتت أخطر عليها من إسرائيل. أما الغريب وغير الطبيعي فهو سلوك الحكومة البريطانية التي أخذت طلب الديكتاتوريات العربية بحظر الجماعة على محمل الجد، مقدمة الاعتبارات الاقتصادية (الحفاظ على صفقات التسليح التي أبرمتها مع أنظمة النفط) على اعتبارات النزاهة السياسية، في الوقت الذي كان بمقدورها لو أرادت أن تفتح الباب أمام تحقيقات أخطر، حول الإرهاب الإسرائيلي، التي تعرضت هي أيضا له على مدار تاريخها، على يد عدد من الجماعات الإسرائيلية المتطرفة التي مازالت امتداداتها موجودة في حكم الدولة العبرية إلى اليوم.ورغم أن الموضوع قد تحول إلى تاريخ، إلا أن قيام البعض باستدعاء نماذج من مقاومة فدائيي الإخوان للاستعمار الإنجليزي لتقديمها ضمن مسوغات طلب تصنيفهم كمنظمة إرهابية يستدعي تذكير الحكومة البريطانية بمصدر الإرهاب الفعلي الذي واجهته منذ أن أصدرت كتابها الأبيض عام 1939. فبعد نشوب المظاهرات والاحتجاجات العربية على نطاق واسع في أعقاب إصدارها وعدها الشهير لليهود بمنحهم وطنا قوميا على حساب الفلسطينيين، اضطرت بريطانيا إلى إصدار ما عرف بالكتاب الأبيض الذي حد من عدد المهاجرين اليهود إلى فلسطين ووضع قيودا صارمة لذلك. وهنا اندلع ضدها الإرهاب الصهيوني، الذي كان على حكومة كاميرون أن تحقق فيه بدلا من أن تتصدى لقضية لا ناقة لها فيها ولا جمل.فمنذ يناير 1944 أعلنت الجماعات اليهودية المتطرفة الحرب على بريطانيا، وكان على رأسها جماعتي أرجون وشتيرن. وقد شنت الأولى بزعامة مناحم بيجين (رئيس الوزراء والحائز على نوبل للسلام لاحقا!) وإسحاق شامير (رئيس وزراء إسرائيل لاحقا) سلسلة من الهجمات على المكاتب وأقسام الشرطة البريطانية والبنية التحتية لوسائل النقل والمواصلات في فلسطين، فيما قامت الثانية بالتقرب من القوات النازية، عارضة عليها الاتحاد في مواجهة البريطانيين، حيث كانت جماعة شتيرن ترى أن ألمانيا النازية تضطهد الشعب اليهودي فقط، أما بريطانيا فتحرمهم من حقهم في الوجود. كما قامت الحركة باغتيال "اللورد موين"، وزير الدولة البريطاني المقيم في الشرق الأوسط، بسبب تأييده ما جاء في الكتاب الأبيض. أما الوكالة اليهودية بزعامة بن جوريون (رئيس وزراء إسرائيل) فكانت دائما ما تنفي صلاتها بالعمليات التي تنفذها الهاجاناه (ذراعها العسكري) وتخفي حقيقة علاقاتها بها، فيما كانت الأخيرة تنسق عملياتها سرا مع عصابتي أرجون وشتيرن لإحداث تغيير في السياسة البريطانية من خلال العنف، ولما قامت الحكومة البريطانية بمداهمة مكاتب الوكالة اليهودية واستولت على الأوراق التي تثبت علاقتها بأعمال العنف وأودعتها مكاتبها الإدارية في فندق الملك داود، قامت العصابات اليهودية بتفجير الفندق بمن فيه، ما أدى إلى مقتل واحد وتسعون شخصاً، وإصابة أكثر من مائة آخرين. وعندما نفذت بريطانيا حكم الإعدام في ثلاثة من المتورطين في الإرهاب من عصابة أرجون، قبضت العصابة على جنديين بريطانيين، واحتجزتهما كرهينيتن لمنع البريطانيين من شنق رجالهم، وعندما نفذ البريطانيون الحكم، شنق أرهابيو أرجون الرهينتين، وعلقوا بجثتيهما قائمة اتهامات للحكومة البريطانية، وفخخوا الجثتين بحيث تنفجران عند محاولة إنزالهما. وكان الغرض من هذه الأعمال هو إظهار احتقار الجماعات الصهيونية للوجود البريطاني الذي كانوا يصفونه بالمعادي لليهود رغم أنه هو الذي منحهم صك التأسيس الذي بنت عليه إسرائيل لاحقا أساس مشروعيتها.كانت العصابات الصهيونية هي أول من استخدم الإرهاب لتحقيق أهداف سياسية، وقد انصاعت له بريطانيا واضطرت للانسحاب من فلسطين تاركة لها لقمة سائغة في فم الصهاينة، وصنع هذا سابقة خطيرة وهي إمكان تغيير الواقع عن طريق الإرهاب. وبطبيعة الحال لم يكن البريطانيون أسوأ المتضررين بسبب الإرهاب الصهيوني، فهم في النهاية كانوا غزاة مؤقتين لأراض العرب، أما العرب فكانوا أكثر من عانى جراء هذا الإرهاب. ولكن لا فائدة تذكر من إعادة تذكير حكام العرب الحاليين بتاريخ الإرهاب الصهيوني بحقهم، فهؤلاء تفرغوا للحرب على الإخوان بسبب خطورتهم الشديدة، التي تتمثل في أنهم يفوزون بالانتخابات أينما أجريت ويصلون إلى الحكم حيثما كان ثمة مسار سياسي متاح، وهم في حربهم المقدسة هذه يسعون إلى أن تشاركهم بريطانيا في وصم هذا الفصيل السياسي بتهمة الإرهاب. فهل ستنحدر بريطانيا إلى مستوى ديكتاتوريات العرب وتقبل مجاراتهم في هذه الدعاوى السخيفة طمعا في أموالهم، أم أنها يمكن أن تسعى إلى التطهر من ماضيها الاستعماري بالبحث عن مصادر الإرهاب الحقيقي في المنطقة، والذي تجمع شواهد عديدة أنه لا يرتبط بسلوك جماعة اختارت العمل السياسي وحققت معظم مكاسبها من خلال المنافسة النزيهة.