12 سبتمبر 2025

تسجيل

إصلاح نظام الوكالة التجارية في الخليج

21 فبراير 2022

أقبلت الإمارات على خطوة متقدمة في مجال الإصلاح الاقتصادي مؤخراً بإلغاء وكالات الاستيراد التجارية. لطالما دعوت لإصلاح نظام ‫الوكالة التجارية‬ الاحتكاري الذي مضت عليه عدة عقود في ‫الخليج، وذلك للحد من تركزات الأسواق عبر الاقتصاد، وتركزات الثروة عبر المجتمع، (ولديَّ دراسة بحثية منشورة عام 2019 بكتاب التنويع الاقتصادي في دول الخليج العربية، بواسطة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات:‬‬ https://twitter.com/dkhalidalkhater/status/1491101457046982662?s=24). إن خطوة ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬كهذه من شأنها الإسهام في تفكيك البنى الاحتكارية في الأسواق، وتعزيز التنافسية وحماية المستهلك، وحماية المنتج الوطني والصناعات الوطنية الوليدة من المنافسة غير العادلة من المنتج الأجنبي ووكلائه المتمكنين في الأسواق منذ فترات طويلة، وبالتالي تنمية المنتج الوطني ودعم التنويع الاقتصادي، بالإضافة إلى إعادة توزيع الثروة بشكل أكثر عدالة في المجتمع.‬‬‬ ‬‬‬‬‬‬‬‬‬ لماذا إصلاح نظام الوكالة التجارية؟ إن احتكار الاستيراد من خلال نظام الوكالة التجارية في دول لا تصنع شيئا، وتستورد كل شيء، يعني احتكار كل شيء. فنظام الوكالة التجارية بشكله الحالي، الذي تم تبنيه قبل أكثر من نصف قرن، يعطي امتيازات احتكارية لترويج منتجات أجنبية عبر شرائح واسعة من المنتجات والبضانع (بلا قيد ولا تقنين)، أصبح يستدعي المراجعة، لأنه يضر بالمستهلك، والمنتج الوطني، ويسهم في تركز الثروة بشكل غير عادل في المجتمع. فعند تبني قوانين الوكالة التجارية الحمائية قبل عدة عقود مع ظهور النفط وبدايات مراحل التنمية، كانت أسواق الاستيراد في الخليج بسيطة وفي بدايات تشكلها، وكان الهدف منها هو استفادة المواطنين والتجار المحليين، ولكن الطريقة التي نمت واتسعت بها تجارة الاستيراد، ساهمت في تكوين بنى احتكارية في الأسواق، تضر بالمستهلك وهو الشريحة الأكبر في المجتمع، وتؤدي إلى مزاحمة المنتج الوطني وقطاع الصناعات الوطنية الوليدة، وساهمت في تركيز الثروة في فئة محدودة، وفي مراكمة رأس المال بشكل غير عادل ولا متوازن في المجتمع. فمع نمو الاقتصادات وتطور أسواق الاستيراد واتساعها مع الوقت، غلب عليها النمو بشكل رأسي عبر الأفراد، فالوكالات لا تنتشر أفقياً بشكل طبيعي عبر شريحة أكبر من المجتمع مع تطور الأسواق واتساعها، ومع ظهور سلع ومنتجات جديدة ودخولها الأسواق، ولكنها تتركز غالباً في نفس الفئة المتمكنة من رأس المال والثروة، التي استفادت مبكراً من قوانين الوكالة التجارية التفضيلية، من تجار ورجال أعمال، وأدى ذلك إلى مزيد من تركزات الأسواق والثروة، وتكريسها في نفس الفئة القائمة، فمكنتها من بناء إمبراطوريات رجال أعمال (كما يصفها بعض الاقتصاديين الغربيين)، بثروات ورؤوس أموال طائلة، يصعب منافستها، وقدرات واسعة على ممارسة الاحتكار، وتشكيل موانع دخول أمام المستثمرين الجدد لهذه الأسواق، بقدرات على إجهاض محاولات تنمية المنتج المحلي ومزاحمة الصناعات الوطنية الوليدة، بفضل هذه القوانين الحمائية التفضيلية التي ما زالت توفرها لها هذه الدول، دون مراجعة ولا تقييم لمدى ملاءمتها لمتطلبات المرحلة الحالية من التنمية مع تطور الاقتصادات والأسواق، فحدت من التنافسية وكرست الاحتكار وتشوهات الأسعار، وعرقلة تنويع الاقتصادات. إن الاحكتار وغلاء الأسعار، بصفة عامة، يضعفان القدرة التنافسية للمنتج الوطني محليا بسبب ارتفاع تكلفة إنتاجه، وخارجيا بسبب ارتفاع سعره، وبالتالي يضعفان القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني، واجتماعيا غلاء الأسعار وتآكل القدرة الشرائية يحدثان تذمرا وضغوطا على الحكومات لزيادة الرواتب والأجور والدعوم، وهكذا دائرة يغذي بعضها بعضا من الأفعال وردود الأفعال المضادة، والضارة بالمجتمع والاقتصاد الوطني. وقطاعا الاستيراد، والسلع غير المتاجر بها دولياً، من عقار وخدمات، هما القطاعان الرئيسيان اللذان يتركز فيهما نشاط القطاع الخاص الخليجي. فطفرات النفط ووفورات الإنفاق الحكومي، مع توظيف القطاع الخاص المكثف لعمالة أجنبية منخفضة المهارة والتكلفة، تؤدي إلى المزيد من التركزات في الاقتصادات، من خلال جذب رؤوس الأموال المادية والبشرية، وتركيزها في هذين القطاعين، فيؤدي ذلك إلى مزاحمة قطاع السلع (الصناعات) المتاجر بها دوليا أو القابلة للتصدير، وهو القطاع القائد لعملية التنويع الاقتصادي، ويتكرر هذا النمط مع كل دورة رواج وانكماش نفطية، ويؤدي إلى عرقلة التنويع الاقتصادي، فتبقى الاقتصادات حبيسة مستوى منخفض من التكنولوجيا والإنتاجية. الإصلاحات المطلوبة لنظام الوكالة التجارية إما أن تنظم الوكالة التجارية بما يحقق أهداف الاقتصاد الكلي، في كفاءة الأسواق وحقوق المستهلك، وتنمية المنتج الوطني، وتوزيع أكثر عدالة للثروة في المجتمع، أو تلغى نهائيا وتفتح المنافسة على مصراعيها. يجب أن يستهدف الإصلاح تقنين التوسع في الوكالات التجارية (للوكيل الواحد)، رأسيا وأفقياً، أي وضع حد له، بما يسهم في تحقيق أهداف الاقتصاد الكلي، في مكافحة الاحتكار (حماية المستهلك)، وتعزيز الاستقرار الاقتصادي (أي كبح التضخم)، والنمو المستدام (أي تنويع الاقتصاد). والاحتكار هو رأس الأفعى في الموضوع كله، فإذا قطعت حُلَّت جميع المشاكل الأخرى ذات العلاقة، من غلاء أسعار وتضخم، ومزاحمة المنتج الوطني والصناعات الوطنية الوليدة، وعرقلة التنويع الاقتصادي، والاستئثار بالثروة، مع تحييد العوامل الأخرى. وما يحدد القوة الاحتكارية هو الحصة السوقية، فكلما كانت مرتفعة في نوع أو خط معين من البضائع، كلما كانت القدرة على ممارسة الاحتكار وتحديد الأسعار والتحكم فيها، في تلك السلعة أكبر. فهنا يمكن فرض نسب معينة كحد أقصى لتركز منتج معين أو خط معين من البضانع والخدمات في موزع أو بائع أو وكيل واحد، وذلك للحد من حصته السوقية التي تحدد القوة الاحتكارية ودرجة التحكم في السعر. فعلى سبيل المثال، إذا كان هناك موزع أو وكيل معين يتحكم في 80 %، من خط معين من الأدوية، أو الأغذية، فمن الطبيعي أن تكون لديه قوة احتكارية كبيرة تؤهله لتحديد السعر والتحكم فيه، في تلك السوق، ولا يقل عن ذلك سوءا، القدرة على تشكيل موانع دخول أمام المستثمرين الجدد لذلك السوق، وإجهاض محاولات تنمية المنتج الوطني فيه، على سبيل المثال، بخفض السعر إلى ما دون تكلفة الإنتاج لإخراج المستثمر الجديد، أو منعه من الدخول استباقياً، ثم رفع السعر مرة أخرى بعد ذلك. لذلك لا يجب أن يُسمح بأن تتخطى الحصة السوقية ذلك الحد المعين الذي يمكن معه ممارسة الاحتكار والتحكم في السعر، وهذه النسبة تبلغ في أمريكا، مثلا، 25 %، وما زاد على ذلك لا يسمح به لنفس المستثمر ويفكك، مع الأخذ في الاعتبار دراسة كل بضاعة وسوق على حدة، ومراقبتها بشكل منتظم، لتقييم مدى تحقق هذه الشروط فيها (أي الحصة السوقية والقوة الاحتكارية)، وعدم الإخلال بها مع مرور الوقت وتطور الأسواق. كما يجب وضع حد معين لتوسع الوكالات التجارية أفقياً، أي تقنين التوسع للوكيل الواحد عبر الوكالات التجارية المختلفة (لذات الأسباب)، ومراقبة التآمر لتحديد الأسعار بين الكيانات المختلفة (التي تستطيع ممارسة الاحتكارعندما تتعاون فيما بينها)، أي الاتفاقات الخفية والتنسيق لتحديد الأسعار والتحكم فيها، فيجب محاربة ذلك بأشد العقوبات الرادعة ولا يسمح به أبداً، فهو محرم في الإسلام شرعا، وكذلك في الغرب المتقدم قانوناً، لأن فيه ظلما اجتماعيا وضررا اقتصاديا كبيرين. وإذا كانت الشركات الأجنبية المصدرة إلينا تضع شروطا وقيودا تعطي امتيازات احتكارية، وتشكل موانع دخول لهذه الأسواق، وتكرس التركزات والممارسات الاحتكارية في أسواقنا من أجل مضاعفة أرباحها والحفاظ عليها، فهي لا تستطيع فعل ذلك في بلدانها بسبب قوانين حماية المستهلك ومكافحة الاحتكار antitrust laws، ولكنها تصدرها إلينا. فمن المفترض أيضا أن تراجع دول مجلس التعاون نظام الوكالة التجارية الذي مضت عليه عقود عدة، وتعيد تنظيم تجارة الاستيراد وفق أسس تضمن كفاءة الأسواق، وحقوق المستهلك، وتنويع الاقتصاد، وتوزيع أكثرعدالة للثروة في المجتمع. فتنظيم الأسواق بهذه الطريقة يهدف للحد من الاحتكار وتعزيز التنافسية وتكافؤ الفرص ورفع الجودة، وإتاحة فرصة أكبر لتنمية المنتج الوطني، في حين أن احتكار الاستيراد يحد من ذلك كله، ويحد من الابتكار والتطوير، وتنمية المنتج الوطني، ويحد من التنافسية داخليا وخارجبا، ويؤدي إلى تسرب المزيد من رؤوس الأموال الوطنية إلى الخارج. متخصص في السياسة النقدية وعلم الاقتصاد السياسي بمركز الاقتصاد الكلي ومعهد الفكر الاقتصادي المستجد بجامعة كامبردج البريطانية [email protected]