14 سبتمبر 2025
تسجيلالأوروبيون في وارسو كانوا أوعى وأذكى وأحرص من الأمريكان ورؤيتهم كانت أعمق متى تكون مصلحة الخليج مقدمة على مصالح غيرهم ممن يسكنون على بعد آلاف الأميال؟ مشهد هرولة الخليجيين نحو التطبيع مع إسرائيل عمل غير ناضج ولا سوي من أبرز المشاهد المدهشة والمستهجنة في مؤتمر وارسو الذي انعقد الأسبوع الفارط، مشهد الهرولة الخليجية نحو التطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي. تلك الهرولة التي أحسبُ أن أي مراقب للوضع العربي، سيحتاج إلى بعض تأمل وتفكر وجلسات بحث وفهم لما يجري، باعتبار أن ما يدفع بدول مثل مصر مثلاً أو سوريا والأردن للتقارب مع " إسرائيل" لا يوجد مثله من دوافع أو مبررات لدول الخليج العربية حتى يقع مثل هذا التسارع الحاصل الآن في العلن، من بعد أن كان في السر والخفاء حيناً من الدهر ربما طويل. من ضمن غرائب وعجائب المؤتمر أيضاً، ذاك الحماس الأمريكي الذي خالف تماماً كل مبادئ وأسس العلاقات بين الدول في العالم، بعد أن أعلنت واشنطن بكل وضوح أنها تحشد - ومعها حليفتها " إسرائيل" - العالم كله، لشيطنة إيران، حتى تكون العدو الأول لعدم الاستقرار في المنطقة، ولتبرير أي إجراءات مستقبلية قد يتم اتخاذها ضد إيران، سواء أمريكياً أم أممياً عبر مجلس الأمن مثلاً. ندرك تماماً أن لواشنطن مصالح في الخليج. وكي تبقى قريبة منها، لابد أن تبرر في كل حين أسباب هذا القرب، على رغم أن مصالحها متوزعة حول العالم، لكنها لا تتعامل معها بالطريقة التي هي عليها في الخليج.. نعم يمكنها المحافظة على مصالحها عبر توثيق علاقاتها بمصادر تلك المصلحة، دون أن تكون سبباً في توتير علاقات دول المنطقة ببعضها البعض، ودون شيطنة أحد أو تحريض دولة على أخرى، كما يحدث منها الآن، بل يحدث منذ أمد بعيد. الأوروبيون في المؤتمر كانوا أوعى وأذكى وأحرص من الأمريكان، ورؤيتهم كانت أعمق، وتحركاتهم أهدأ من التحركات السريعة الحماسية للأمريكان، الأمر الذي أضعف المؤتمر ولم يحقق ما سعى إليه الأمريكان بالصورة المرجوة، بالإضافة إلى أن وجود " نتنياهو" في المؤتمر، كان عامل توتر وشكوك عند غالبية الحضور إلا البعض القليل، وأنه ما حضر بنفسه إلا كنوع من ترويج اسمه لأجل استحقاقات انتخابية قريبة قادمة في" إسرائيل"، الأمر الذي لم يمر على حضور المؤتمر، ولا الإعلام الذي كان حاضراً هناك. الهرولة الخليجية نحو التطبيع إن عدنا تارة أخرى لمشهد هرولة الخليجيين نحو التطبيع مع " إسرائيل"، فسنجده عملاً غير ناضج ولا سوي، ويكفيه من السوء أن يتفاخر به نتنياهو ويعتبره مكسباً لدولته، في حين أننا لا زلنا نتدارس في المكاسب التي حصل أو يمكن أن يحصل عليها المهرولون نحو التطبيع، في الوقت الذي كان يتحتم على الخليجيين، وبدلاً من حضور وارسو، الاجتماع مع إيران في أي عاصمة خليجية، وبحث كل الملفات العالقة أو المؤجلة أو المتأزمة معها، دون أي داع لوكيل أو مراقب أجنبي كالولايات المتحدة وغيرها. إن من الحكمة في التعامل بين الدول ومنطق السياسة الواعية الواقعية، أن تكون علاقات الدول المجاورة بعضها ببعض، على رأس أولويات تلك الدول. يتم تعزيزها ودعمها وتجنب كل ما يمكن أن يعكر صفو العلاقات والتعاملات بينها، والحيلولة دون دخول أطراف بعيدة غريبة تسعى لمصالحها على حساب تلك الدول، كما الحاصل الآن بين دول الخليج وإيران. إيران هو قدر جغرافي للمنطقة ولا يمكن تغييره. لكن الذي يمكن تغييره أو يجب أن يتغير فعلاً، هو أسلوب التعاطي مع هذه الدولة، والحكمة في التعامل معها. هي مدرسة في الحوار والتفاوض، وليس عندها منطق الاغترار بقوة الساعد والسلاح كما عند الأمريكان مثلاً، وأن ما كسبته خلال العقود الثلاثة الماضية في المحيط العربي، إنما لذكائها وهدوئها في التعامل مع الثوابت والمتغيرات في المنطقة، وحسن استثمار كل الفرص التي لاحت وما زالت تلوح أمامها، سواء بالخليج أو مناطق جغرافية أخرى، في الوقت الذي خسرت دول المنطقة الكثير الكثير بفعل التسرع في اتخاذ القرارات وغياب الحكمة في التعامل معها، وعدم وضوح للرؤية الاستراتيجية – إن كانت هناك رؤى - والاعتماد على قوى خارجية في هذا الأمر، والتي دون ريب، ما جاءت إلا لرعاية مصالحها أولاً وأخيراً.. إذ حين تجد تلك القوى مصلحتها في الوقوف في صف إيران، فلن تتردد لحظة. إنه المنطق نفسه الذي تسير عليه السياسة الإيرانية.. المنطق المعروف في عالم السياسة: لا صديق دائم ولا عدو دائم، لكن مصلحة دائمة. فمتى يكون لسياسة الخليجيين منطقها الخاص، بحيث تكون مصلحة الخليج مقدمة على مصالح غيرهم ممن يسكنون على بعد آلاف الأميال عنهم؟ وهل حان الوقت أن يتعرف هذا الخليج على العدو الحقيقي له، بعد أن يكتشفه بنفسه لا الذي يصوره الغرباء في كل حين؟ تلك التساؤلات ليست أمنيات، لكنها ضرورات تحتم الظروف الحالية مراعاتها والتنبه العميق لها، قبل وقوع مزيد من الابتزازات على يد الغريب الأمريكي وغيره، وربما قريباً على يد الإسرائيلي الأغرب !. [email protected]