16 سبتمبر 2025
تسجيلفي عام 2004 انعقدت القمة العربية السادسة عشرة في تونس، كان الموضوع الساخن في ذلك الوقت، بالإضافة إلى التطورات في القضية الفلسطينية، وفي العراق، مشروع "الشرق الأوسط الكبير" الذي طرحته إدارة جورج دبليو بوش بالتشاور مع الحلفاء الأوروبيين، ومعلوم أن هذا المشروع تبلور إثر ضغوط كانت واشنطن بدأت تمارسها على الدول العربية بعناوين مثل: الديمقراطية، الإصلاح السياسي والاقتصادي، احترام حقوق الإنسان، تمكين المرأة، وإتاحة العمل لهيئات المجتمع المدني. كان موعد القمة، كالعادة، أواخر مارس، وجاء وزراء الخارجية عشية المؤتمر لإنهاء التحضيرات، قبل ذلك كانوا التقوا في القاهرة وناقشوا مسودة وثيقة يفترض أن تكون بمثابة رد عربي إيجابي على الدعوات الغربية، ولم يتفقوا حينذاك على الأفكار الرئيسية فقرروا صياغتها مجدداً واستكمال النقاش قبيل القمة، وهذا ما حصل، إذ شرعوا في وضع اللمسات الأخيرة على ما سمي "بيان مسيرة التطوير والتحديث والإصلاح"، إلا أن الرئيس التونسي زين العابدين بن علي لم يكن راضياً على وتيرة النقاش والصياغات المزمعة فأوفد نائب وزير الخارجية الذي دخل على الوزراء وأبلغهم أن اجتماعهم انتهى لأن تونس لا تستطيع استضافة القمة إذا لم تتخذ مواقف واضحة في مسألتي الديمقراطية والإصلاح. استمرت الأزمة الناجمة عن هذا التصرف التونسي غير الدبلوماسي بضعة أسابيع، وأمكن عقد القمة أواخر مايو، بعد حل الإشكالات المتعلقة ببعض مفردات الوثيقة، ومع ذلك، لم يخل الأمر من بعض الحوارات المنفعلة في اجتماع القادة، وقيل يومها إن الرئيس المصري حسني مبارك غادر تونس وهو على خصام مع بن علي، إذ كان مبارك يريد تضمين الوثيقة رفضاً واضحاً للتدخلات الخارجية في شؤون داخلية تتعلق مثلاً بالإصلاح السياسي. بعد سبعة أعوام جرت تنحية الرئيسين في ثورتين مفاجئتين لم يتجسم نشطاؤهما عناء المطالبة بـ"الإصلاح" بل ذهبوا إلى الهدف مباشرة وهو إسقاط النظام، وقد سقط في الحالين. ومنذ تلك القمة في تونس دأبت القمم التالية في الجزائر والسودان والرياض والدوحة وسرت على درس التقارير الواردة من مختلف الدول بشأن ما أنجزته في مجالات "التطوير والتحديث والإصلاح"، لكن هذه العملية راحت تتم على نحو روتيني، بالأحرى شكلي، من دون التدقيق في مدى التقدم أو في مصداقية المعلومات التي توفرها الدول، مما جعل التقرير العام عن "الإنجازات" مجرد جهد إنشائي، وكان مفهوماً أن الدول كافة اعتبرت أنه كان عليها أن تمرد العاصفة الأمريكية وأن بيان قمة تونس كان إنجازاً كافياً. لا تزال الوثيقة في حد ذاتها تصلح لاعتبارها إعلان نيات من الحكومات العربية، كما أنها في محاولتها للتكيف مع المطالب الغربية قدمت إرهاصات رؤية عربية خاصة للاستحقاقات المطلوبة، إذ اشتعل الجدل وقتئذ على "المفاهيم"، وعلى نماذج الديمقراطية وضرورة احترام الخصوصيات، كما كانت هناك حساسية عالية إزاء ما اعتبر تدخلاً خارجياً فظاً في الشؤون الداخلية، ومحاولة لفرض نماذج مستوردة لا تتناسب مع المجتمعات العربية، حاولت الوثيقة، إذاً أن تدور الزوايا لتلتقي في منطقة وسط بين الرؤيتين المتنافرتين، إذ اعتبر الجانب العربي أن الدول الكبرى مطالبة بالعمل الجاد لتحقيق تسوية عادلة للقضية الفلسطينية "من شأنها أن تعزز الإحساس بالسلام والأمن وتدعم الجهود الذاتية لشعوب المنطقة نحو التغلب على التحديات وتجاوز التداعيات الناجمة عن عهود الاستعمار وتعزز مسيرة الممارسة الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان العربية". ويذكر أن وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك كونداليزا رايس كررت مراراً أن الإصلاح والديمقراطية "ليسا محكومين، بانتظار تسوية القضية الفلسطينية بل يجب أن يتجاوزاها". في البند الثالث من الوثيقة وردت عبارة سريعة: "الاهتمام بالطفولة والشباب"، نعم الشباب، في حين أن وثيقة "الشرق الأوسط الكبير" تتحدث بشيء من الإسهاب عن الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة لتأمين فرص عمل وتقليص معدلات البطالة، كما تشير إلى إصلاح النظم التعليمية بهدف تركيز توجهها نحو بناء قوى إنتاجية، وليس المقصود هنا الدخول في مفاضلة أو امتداح المشروع الغربي الذي ينطوي على كثير من الثغرات، فضلاً عن أنه مبني أساساً على أهداف سياسية لا يقبلها حتى أشد المتحمسين للدعوات الأمريكية، لكن ينبغي القول إن الوثيقة العربية غرقت في العموميات التي لا تعني شيئاً، فضلاً عن أنها كانت بحاجة إلى تطوير بحيث تترجم فقراتها إلى تصورات ومشاريع تنفيذية منبثقة من دراسات موجودة فعلاً وتغطي مجمل الميادين المطلوب إصلاحها، ثم إن موضوعاً مهماً مثل الإصلاح كان يستحق جهداً لوضع نوع من جدول أعمال عربي – عام – لا يتطرق إلى ما هو خاص في كل دولة – يصار إلى مراجعته دورياً ويصبح بمثابة دليل عربي للاستحقاقات المطلوبة. مع انتفاضات الشباب في العالم العربي يسود شعور بأن ثمة أجيالا عربية من الحكام والمعارضين انتهت حياتهم عملياً، لذلك سمعنا العديد من المسنين والمخضرمين يقولون إن مستقبلهم بات وراءهم وأن المعترك بات الآن ملكاً للشباب ومفتوحاً لهم وحدهم، لعل ذلك عائد إلى ثقافة حكم كرسها بعض الأنظمة بعدم اعتماده على التداول وعلى تجديد الوجوه والدماء في شرايين الدول، فكل الحكومات في العالم المتقدم تعمل بوتيرة سريعة وقلقة لأنها تعلم أن أيامها وسنواتها معدودة، وبالتالي فإن هاجسها الدائم هو أن الجيل الصاعد آت ليأخذ مكانه لا محالة ولابد لها أن تستثمر فيه وتساعده ليكمل ما بنته بل يبني عليه ويطوره، لأن سر التقدم هو المراكمة الإيجابية. كانت الدعوات الغربية، خصوصاً الأمريكية – تراجعت منذ أواخر عهد بوش، وكذلك الاهتمام بالإصلاح من جانب الحكومات العربية، فإذا بالشباب يهبون من حيث لا يدري أحد للدفاع عن مستقبلهم، لم تعد الضغوط خارجية بل داخلية، فحتى الذين يعتقدون أنهم في مأمن ينبغي أن يراجعوا سياساتهم.، وفي العراق، مشروع "الشرق الأوسط الكبير" الذي طرحته إدارة جورج دبليو بوش بالتشاور مع الحلفاء الأوروبيين، ومعلوم أن هذا المشروع تبلور إثر ضغوط كانت واشنطن بدأت تمارسها على الدول العربية بعناوين مثل: الديمقراطية، الإصلاح السياسي والاقتصادي، احترام حقوق الإنسان، تمكين المرأة، وإتاحة العمل لهيئات المجتمع المدني. كان موعد القمة، كالعادة، أواخر مارس، وجاء وزراء الخارجية عشية المؤتمر لإنهاء التحضيرات، قبل ذلك كانوا التقوا في القاهرة وناقشوا مسودة وثيقة يفترض أن تكون بمثابة رد عربي إيجابي على الدعوات الغربية، ولم يتفقوا حينذاك على الأفكار الرئيسية فقرروا صياغتها مجدداً واستكمال النقاش قبيل القمة، وهذا ما حصل، إذ شرعوا في وضع اللمسات الأخيرة على ما سمي "بيان مسيرة التطوير والتحديث والإصلاح"، إلا أن الرئيس التونسي زين العابدين بن علي لم يكن راضياً على وتيرة النقاش والصياغات المزمعة فأوفد نائب وزير الخارجية الذي دخل على الوزراء وأبلغهم أن اجتماعهم انتهى لأن تونس لا تستطيع استضافة القمة إذا لم تتخذ مواقف واضحة في مسألتي الديمقراطية والإصلاح. استمرت الأزمة الناجمة عن هذا التصرف التونسي غير الدبلوماسي بضعة أسابيع، وأمكن عقد القمة أواخر مايو، بعد حل الإشكالات المتعلقة ببعض مفردات الوثيقة، ومع ذلك، لم يخل الأمر من بعض الحوارات المنفعلة في اجتماع القادة، وقيل يومها إن الرئيس المصري حسني مبارك غادر تونس وهو على خصام مع بن علي، إذ كان مبارك يريد تضمين الوثيقة رفضاً واضحاً للتدخلات الخارجية في شؤون داخلية تتعلق مثلاً بالإصلاح السياسي. بعد سبعة أعوام جرت تنحية الرئيسين في ثورتين مفاجئتين لم يتجسم نشطاؤهما عناء المطالبة بـ"الإصلاح" بل ذهبوا إلى الهدف مباشرة وهو إسقاط النظام، وقد سقط في الحالين. ومنذ تلك القمة في تونس دأبت القمم التالية في الجزائر والسودان والرياض والدوحة وسرت على درس التقارير الواردة من مختلف الدول بشأن ما أنجزته في مجالات "التطوير والتحديث والإصلاح"، لكن هذه العملية راحت تتم على نحو روتيني، بالأحرى شكلي، من دون التدقيق في مدى التقدم أو في مصداقية المعلومات التي توفرها الدول، مما جعل التقرير العام عن "الإنجازات" مجرد جهد إنشائي، وكان مفهوماً أن الدول كافة اعتبرت أنه كان عليها أن تمرد العاصفة الأمريكية وأن بيان قمة تونس كان إنجازاً كافياً. لا تزال الوثيقة في حد ذاتها تصلح لاعتبارها إعلان نيات من الحكومات العربية، كما أنها في محاولتها للتكيف مع المطالب الغربية قدمت إرهاصات رؤية عربية خاصة للاستحقاقات المطلوبة، إذ اشتعل الجدل وقتئذ على "المفاهيم"، وعلى نماذج الديمقراطية وضرورة احترام الخصوصيات، كما كانت هناك حساسية عالية إزاء ما اعتبر تدخلاً خارجياً فظاً في الشؤون الداخلية، ومحاولة لفرض نماذج مستوردة لا تتناسب مع المجتمعات العربية، حاولت الوثيقة، إذاً أن تدور الزوايا لتلتقي في منطقة وسط بين الرؤيتين المتنافرتين، إذ اعتبر الجانب العربي أن الدول الكبرى مطالبة بالعمل الجاد لتحقيق تسوية عادلة للقضية الفلسطينية "من شأنها أن تعزز الإحساس بالسلام والأمن وتدعم الجهود الذاتية لشعوب المنطقة نحو التغلب على التحديات وتجاوز التداعيات الناجمة عن عهود الاستعمار وتعزز مسيرة الممارسة الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان العربية". ويذكر أن وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك كونداليزا رايس كررت مراراً أن الإصلاح والديمقراطية "ليسا محكومين، بانتظار تسوية القضية الفلسطينية بل يجب أن يتجاوزاها". في البند الثالث من الوثيقة وردت عبارة سريعة: "الاهتمام بالطفولة والشباب"، نعم الشباب، في حين أن وثيقة "الشرق الأوسط الكبير" تتحدث بشيء من الإسهاب عن الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة لتأمين فرص عمل وتقليص معدلات البطالة، كما تشير إلى إصلاح النظم التعليمية بهدف تركيز توجهها نحو بناء قوى إنتاجية، وليس المقصود هنا الدخول في مفاضلة أو امتداح المشروع الغربي الذي ينطوي على كثير من الثغرات، فضلاً عن أنه مبني أساساً على أهداف سياسية لا يقبلها حتى أشد المتحمسين للدعوات الأمريكية، لكن ينبغي القول إن الوثيقة العربية غرقت في العموميات التي لا تعني شيئاً، فضلاً عن أنها كانت بحاجة إلى تطوير بحيث تترجم فقراتها إلى تصورات ومشاريع تنفيذية منبثقة من دراسات موجودة فعلاً وتغطي مجمل الميادين المطلوب إصلاحها، ثم إن موضوعاً مهماً مثل الإصلاح كان يستحق جهداً لوضع نوع من جدول أعمال عربي – عام – لا يتطرق إلى ما هو خاص في كل دولة – يصار إلى مراجعته دورياً ويصبح بمثابة دليل عربي للاستحقاقات المطلوبة. مع انتفاضات الشباب في العالم العربي يسود شعور بأن ثمة أجيالا عربية من الحكام والمعارضين انتهت حياتهم عملياً، لذلك سمعنا العديد من المسنين والمخضرمين يقولون إن مستقبلهم بات وراءهم وأن المعترك بات الآن ملكاً للشباب ومفتوحاً لهم وحدهم، لعل ذلك عائد إلى ثقافة حكم كرسها بعض الأنظمة بعدم اعتماده على التداول وعلى تجديد الوجوه والدماء في شرايين الدول، فكل الحكومات في العالم المتقدم تعمل بوتيرة سريعة وقلقة لأنها تعلم أن أيامها وسنواتها معدودة، وبالتالي فإن هاجسها الدائم هو أن الجيل الصاعد آت ليأخذ مكانه لا محالة ولابد لها أن تستثمر فيه وتساعده ليكمل ما بنته بل يبني عليه ويطوره، لأن سر التقدم هو المراكمة الإيجابية. كانت الدعوات الغربية، خصوصاً الأمريكية – تراجعت منذ أواخر عهد بوش، وكذلك الاهتمام بالإصلاح من جانب الحكومات العربية، فإذا بالشباب يهبون من حيث لا يدري أحد للدفاع عن مستقبلهم، لم تعد الضغوط خارجية بل داخلية، فحتى الذين يعتقدون أنهم في مأمن ينبغي أن يراجعوا سياساتهم.