15 سبتمبر 2025
تسجيلخبرتنا مع نار الدنيا أنها تحرق أي شي يقع فيها، فإما أن يتفحم أو يذوب أو يتبخر، وينتهي أمره كأن لم يوجد من قبل، أو هكذا قانون الحرق في الدنيا. لكن حين تتأمل بعض آيات القرآن حول نار جهنم، تجد أن خصائصها تختلف كثيراً عن نار الدنيا. فهي بالإضافة إلى أنها تحرق وتذيب، إلا أنها لا تنهي الشيء، سواء كان هذا الشيء من الإنس أم الجن. بل الأعجب أن تحدث حوارات بين من يُحكم عليهم بدخول النار - والعياذ بالله – في مشاهد لا يمكن تخيلها، لكن بالطبع نؤمن بها وبوقوعها. وليس حديثنا اليوم عن النار، لكن عن جزء مما يحدث فيها، وهي حوارات أهلها، لنصل منها إلى بعض حقائق مهمة قد تكون الناجية من معايشة تلك الحوارات، أعاذنا الله وإياكم جميعاً منها، وما قرّب إليها من قول أو عمل. تأمل بداية هذا الحوار في قوله تعالى (يوم تقلب وجوههم في النار يقولون: يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا* وقالوا: ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا* ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً)، مشهد رهيب من مشاهد يوم القيامة، إنها الحسرة والندامة، فالآن يتمنى أحدهم لو أنه أطاع الله وأطاع رسوله، إنها أمنية لكنها متأخرة جداً. وحين تقرأ وتتأمل قوله تعالى (وإذ يتحاجُّون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار* قال الذين استكبروا إنّا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد) ستجد وصفاً دقيقاً لحوار كما جاء في الآية، والذي يمكن أن نطلق عليه حوار (الحسرة والندامة) إن صح التعبير، حوار بين فريقين من أهل النار، فريق يتألف من دعاة كفر وشرك وضلال، وفريق آخر يتألف من الذين اتبعوا أولئك الدعاة في حياتهم الدنيا، الذين اتبعوا زعماءهم وسلاطينهم وقادتهم وأحبابهم، دونما أدنى تفكير في حق وباطل ومآلات ذلكم الاتباع الأعمى، فكانت النتيجة أن اجتمع الفريقان في النار وبقية القصة المعروفة. حوار جهنمي حوار الحسرة والندامة، هي النتيجة النهائية لصراع بشري كان وما زال وسيكون إلى يوم الدين، صراع بين فريقين، وإن بدا ظاهرياً أنهما متفقان، فريق قيادة وفريق أتباع، ذلك أن الخلاف الحاد الحقيقي الفعلي سيظهر علناً بينهما في حياة أخروية، هو ما تحدثت عن جزئية منه، الآية الكريمة المذكورة أعلاه. تجد فريق القيادة أو فريق الزعامات، يدعو إلى مبادئ وأفكار ومعتقدات، هي غالباً تعاكس الحق والصواب. وفريق الأتباع تجده خلف الأول ماشياً حيناً، ومهرولاً حيناً آخر، ويتسارع في اعتناق مبادئ وأفكار ومعتقدات الأول، دونما كثير تمحيص أو مناقشة، لكن رغبة أو رهبة، رغبة في الحصول على بعض ما عند الأول من نعيم مادي لا يدوم، أو رهبة مما قد ينتج عن زعماء الفريق القيادي من تهور في السلوك حال عصيانهم، ويكون على شكل تعذيب نفسي أو جسماني متنوع، وخسائر مادية أخرى لا يرغب الأتباع في رؤيتها واقعاً متجسداً أمامهم، وبالتالي ليس من بد سوى اتباع القيادة، حتى النهاية!. التبعية ومهاوي الردى تلكم السلبية من أفراد فريق الأتباع، ستؤدي بهم لا محالة إلى نهاية غير سعيدة، لا في الدنيا ولا الآخرة، كما بانت ملامحها في الآية، وبالمثل ستؤدي الإيجابية المزعومة أو الغطرسة والتجبر والكبر بأفراد الفريق الأول، إلى نهاية غير سعيدة أيضاً، لا دنيا ولا آخرة. ثم بعد حين من الدهر، طال أم قصر، تقع مشاهد من الصراع بين الفريقين، فريق يدفع ويضغط على الآخر لأن يتبعه، وفريق يضغط ولكن على نفسه، كيلا يواجه الأول، خشية قوته وبأسه وغضبه، وخشية أخرى من فقد مزايا مزيفة، وبعد تلك المشاهد، يبدأ يظهر التلاوم الحقيقي بين الفريقين، ولكن بعد فوات الأوان. يحدث إذن ويقع أخيراً التلاوم، ولكن أين؟ إنه في نار جهنم - والعياذ بالله - كما ظهر على شكل حوار بالآية، إذ الأتباع يومها يلومون القادة والزعماء، وأنهم السبب فيما هم عليه الآن من بؤس وشقاء سيكون أبدياً، ويسألونهم إن كان ما زال بيدهم حيلة أو وسيلة - كما كانوا بالدنيا أصحاب قوة ونفوذ - يستطيعون بها انقاذ أنفسهم وانقاذهم معهم مما هم فيه، كما كان حالهم في الدنيا، ولكن لا حياة لمن تنادي. فترتفع أصواتهم ساعتئذ بعد يأس عميق (ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا* ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيراً)، لكن ما فائدة كل هذا الدعاء أو النداء أو الاعتراف بالخطأ، لقد فات الأوان. الحق أحق أن يُتّبع إذن هي إشارات قرآنية واضحة بذاتها، ذكرها الله في الآيات سابقة الذكر، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، إشارات تبين لنا أهمية اتباع الحق وليس الرجال، على اختلاف صورهم وهيئاتهم، قادة، ساسة، زعماء، ملوك، سلاطين ومن على شاكلتهم كثير، الحق والحق فقط هو الذي ينجيك، وإن قل عدد تابعيه، فيما الباطل يخذلك دون شك أو أدنى ريب، وإن كثُر عدد تابعيه. اختر من شئت لتتبعه، ولكن تأمل وتفحص ما تختار، فما زال القرار بيدك، فإما أن يؤدي قرارك بك إلى جنة أو إلى نار، إن النتيجة النهائية لاتباع الباطل، وإن حاول تزيين نفسه بشتى أنواع الزينة، هي البؤس والشقاء الأبدي، والعكس صحيح دون أدنى شك. تأمل دوماً حال من يعطل حواسه وعقله، ويتبع أهواء غيره، ويغتر بالكثرة وبالمال والقوة المادية عند البعض، فيقرر دون قليل تأمل وتدبر دخول فريق الأتباع على غير هدى أو بصيرة، ومثله آلاف مؤلفة، وهو الأمر الذي يشجع ويعزز فريق القادة للاستمرار على نهجه، منطلقاً من وهم وغرور السيطرة، فترى هذا الفريق يتجبر ويتكبر ويعتقد بقوة تأثيره وهو يرى ازدياد تابعيه، حتى تنتهي المشاهد الدنيوية على ذلك، ويصل الفريقان إلى نهاية أليمة، هي التي تحدثنا عنها في البداية، حيث أجواء الحسرة والندامة. ويا لها من نهاية بائسة. [email protected]