17 سبتمبر 2025
تسجيلانتشرت مؤخرا ظاهرة التسريبات الإعلامية، سواء في الأنظمة التي لا تتيح قنوات شرعية للمشاركة السياسية، أو تلك التي توفر مثل هذه القنوات ولكنها تمارس من السياسات ما لا تطلع عليه شعوبها، حتى أصبحت التسريبات جزءا لا يتجزأ من الخطاب المقاوم للاستبداد والساعي لكشف زيف العديد من الديمقراطيات في الوقت نفسه.ويمكن أن نؤرخ لبداية الاهتمام بهذه الظاهرة بفترة الاحتلال الأمريكي للعراق، فخلال هذه الفترة انتشرت التسريبات التي تدين السلوك الأمريكي وتحاول فضح النفاق السياسي للإدارة الأمريكية، وإظهار مدى تعارض ما تنادي به من قيم مع ما تمارسه من انتهاكات. وكانت صور التعذيب بسجن أبو غريب هي أشهر تلك التسريبات على الإطلاق، حين ظهر موظفون تابعون للجيش الأمريكي وهم يرتكبون انتهاكات إنسانية وأخلاقية بحق المسجونين العراقيين. وقد حاولت إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن وقتها أن تقلل من تأثير هذه التسريبات ووصفها بأنها أعمال فردية لا تمثل سياسة الولايات المتحدة. ولكن جاء تسريب حادثة القتل التي نفذتها طائرة الأباتشي الأمريكية ضد مجموعة من المدنيين والمعروفة بالـ Collateral Murder، ليكشف زيف هذا الادعاء ويؤكد أن ثمة خللا أخلاقيا في أداء الجنود الأمريكيين، والأهم ليؤكد على شرعية ظاهرة التسريبات التي تكشف ما لا يكشفه الإعلام التقليدي. من خلال هذا التسريب اتضح أن أفعال الدول — بما فيها الديمقراطية — ليست دائما بالرشادة التي يفترضها الناس، حيث أظهر التسريب تفاصيل عملية استهداف لمجموعة من المدنيين لا لشيء إلا للاشتباه بأنهم يحملون أسلحة، وفي خلفية الفيديو جرت محادثة بين الجنود المنفذين لعملية القتل أظهرت مدى استهانتهم بأرواح الآخرين. الجدير بالذكر أن هذا التسريب أظهر في الوقت نفسه القوة الناعمة التي يتمتع بها المجتمع الافتراضي وقدرته على مشاكسة الأنظمة السياسية في أكثر جوانب أمنها حساسية؛ ألا وهي أمنها المعلوماتي.وهكذا تم تدشين ظاهرة جديدة يمكن أن نطلق عليها اسم حق التدخل المعلوماتي، وذلك قياسا على الظاهرة الأشهر المعروفة باسم حق التدخل الإنساني، والتي تشير إلى "الحق" الذي تتذرع به بعض الدول لكي تتدخل في شؤون دول أخرى لأغراض تتعلق بتدهور الأوضاع الإنسانية فيها. ولكن يختلف التدخل "المعلوماتي" عن النمط "الإنساني" للتدخل في أكثر من زاوية، أولها أنه تدخل يقوم به الأفراد وليس الحكومات، وثانيها أن التدخل هنا لا يشترط أن يكون في شؤون دول أخرى ولكن ربما يقوم به الأفراد في شؤون دولهم أنفسهم، وثالثها أن التدخل هنا لا يتعلق فقط بتدهور الأوضاع الإنسانية أو ممارسة العنف ضد المدنيين، ولكنه يتعلق بقائمة طويلة من الأسباب التي تتراوح بين فضح الدبلوماسية السرية لدولة معينة وبين نقد موقفها من حرية التداول المعلوماتي.ويمكن أن نرجع بظاهرة التسريب المعلوماتي إلى تاريخ أقدم بطبيعة الحال من غزو العراق، إذ ترتبط فكرة حروب المعلومات بفترة ازدهار الاتجاهات الراديكالية في مطلع القرن الماضي، وبخاصة في محاولة الشيوعيين الروس كشف انتهاكات الحقبة القيصرية، وفضح أساليب الدبلوماسية السرية التي تتعلق بالتوسع الإمبريالي، وقد انكشفت للعالم العربي وثائق التفاهم المعروفة باتفاقية سايكس بيكو في إطار عملية التسريب التي قام بها البلاشفة في هذا الإطار عقب نجاح ثورتهم عام 1917.وبشكل عام فإن الغرض من التسريبات عادة ما يكون محاولة تخطي السلطة السياسية، أو مزاحمتها فيما تحتكره من مصادر للقوة. كما يتضمن هذا السلوك محاولة إثبات أن السيادة مازالت في يد الشعوب التي تملك إدانة سلوك صاحب السلطة وفضح وسائله التي يستخدمها للبقاء في الحكم. وبشكل أكثر عمومية يمكن القول إن هذه الظاهرة تمثل محاولة لتخطى الفجوة بين ضخامة قدرات الأنظمة وضآلة قدرات الأفراد. ففي إطار ثقافة التسريبات تبدو العلاقة بين المواطن والسلطة معكوسة فبدلاً من أن تراقب السلطة الأفراد، فإن الأفراد هم من يراقبون السلطة، وينشرون أخبارها، ليس بهدف التجسس عليها، ولكن لموازنة قوتها، أو توجيه نوع من الضربات العكسية ضد استبدادها.ويشير انتشار هذه الظاهرة إلى بروز مستويات جديدة للفعل السياسي، فالقرارات المتعلقة بالمشاركة السياسية، لم تعد تتم فقط في إطار لجان الانتخاب أو مقرات الأحزاب، ولكن في مقاهي الإنترنت، والمنتديات الافتراضية أيضا. كما ظهرت مبادئ تنظيمية جديدة للواقع السياسي. حيث أصبح الفرد وليس السلطة، هو من يحدد شكل المشاركة السياسية، والإطار الذي تتم فيه حيث تقوم قوة المعلومات في مواجهة قوة السلاح. وبطبيعة الحال لا يمكن أن تحظى التسريبات بمشروعية سياسية في أى نظام سياسي، فمن العسير على أي دولة أن تقبل الاعتراف بحق الأفراد أو المنظمات في التدخل في شؤونها المعلوماتية. كما أنه من الطبيعي أن تنظر هذه الأنظمة إلى هذه الأفعال على أنها انتهاك لسيادتها، حيث تتعارض مباشرة مع ما تصفه بأمنها القومي، خاصة أن معظم الدول تحتفظ بحدود مرنة لما تعتبره أمنا قوميا، وذلك حتى تشمل بداخلها أيا من الأفعال التي تتعارض مع استقرارها.ويطرح كل ما سبق تساؤلات حول قدرة التسريبات أن تقض عروش الاستبداد، أو أن تغير المعادلات السياسية القائمة في الأنظمة الموصوفة بالديمقراطية، وهذا ما سنحاول بحثه في مقال لاحق إن شاء الله.