18 سبتمبر 2025
تسجيلانسحبت القوات الأمريكية من العراق بعدما رفضت حكومة نوري المالكي التمديد لها. الاحتلال الأمريكي للعراق أحدث انقلابا جذريا في التوازنات الإقليمية من حيث تدري حينا ومن حيث لا تدري أحيانا. الاحتلال أفرز نتيجتين سلبيتين جدا وهما تسعير الفتنة الشيعية السنية وإحداث أول خرق لتقسيمات سايكس بيكو عبر إنشاء فيدرالية كردية في شمال العراق. ليس أخطر على وحدة العالم الإسلامي من نبش الحساسيات المذهبية والتاريخية والعمل على التباينات الإثنية. وليس تقسيم السودان سوى إحدى ثمرات تعميم المناخ التقسيمي الذي بدأ في العراق. ما بين سايكس بيكو واليوم حوالي القرن. وها ذكراها المشؤومة تلوح بعد خمس سنوات فقط. أما الفتنة المذهبية فإنها تستنبط قرونا من الصراعات الدموية العبثية التي أوصلت العرب والمسلمين اليوم إلى أسفل سافلين. بالأمس أطلق رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوجان تحذيرا من أن سوريا في طريقها إلى حرب مذهبية. وأعقبه وزير خارجيته أحمد داود أوغلو بالقول إنها ستنعكس حربا مذهبية على مستوى المنطقة. وبعدها تعاقب المسؤولون الأتراك من أن الخلاف بين رئيس الحكومة العراقية وبين طارق الهاشمي رئيس الحزب الإسلامي ونائب رئيس الجمهوري يدفع بالعراق إلى حرب مذهبية. الجميع يحذّر من حروب مذهبية. باتت مفردة"مذهبية" تلوكها الألسن بسهولة واستسهال شديدين كما لو أنهم يتحدثون عن زيادة الأجور للموظفين والعمال. وهنا مكمن الخطورة عندما تترسخ المصطلحات والمفاهيم كما لو أنها أمر عادي وجزء من "ثقافة" المجتمعات الإسلامية. وإضافة إلى الحرب المذهبية بات أيضاً التحذير من خوف الأقليات المسيحية ومستقبلها وسط البحر الإسلامي الذي تتنامى فيه قوة الحركات والتيارات ذات التوجهات الإسلامية. ويأخذون أيضا العراق مثالا على هذه المخاوف. حيث لم تبق في زمن الاحتلال سيارة إلا وانفجرت بوجه الجميع ومنهم المجموعات المسيحية. فقتل من قتل ونجا من نجا وهاجر هربا من هاجر وباتت بلاد الرافدين خلوا أو تكاد من العنصر الثاني الأساس المشكّل للحضارة العربية أي المسيحيين. والأمر انسحب على مصر حيث يتم تظهير المسألة القبطية دماء وقتلى من وقت لآخر. واليوم مع اندلاع الأحداث في سوريا وتصاعد موجة الاضطراب والمخاوف من الانزلاق إلى حرب أهلية يرتفع الحديث من جديد على مصير الأقلية المسيحية التي تقارب الـ 12 في المائة من السكان بحسب تقديرات غير رسمية. وبات "اللعب" بالورقة المسيحية مهنة اللاعبين الإقليميين والدوليين. حيث إن استكمال المؤامرة على وحدة العالم العربي والإسلامي ومنها وحدة سوريا تستدرج تجاوز كل الخطوط الحمر. ولعل من أكبر المفارقات أن تركيا التي عانى المسيحيون خلال الحكم العثماني كثيرا والتي وصف رئيس وزرائها رجب طيب أردوجان الحضارة البيزنطية بأنها"حضارة سوداء" وحيث لا تزال مشكلتها مع المسألة الأرمنية وواقع المسيحيين فيها قائمة، هي التي تحاول أن تقدم "ضمانات" للمسيحيين في سوريا بأن سقوط النظام في سوريا ووصول حكم إسلامي إلى السلطة لن يشكل خطرا على المسيحيين وكل ذلك بضمانة تركيا(!). لا يمكن إنكار أن حركات الإسلام السياسي في العالم العربي فضلا عن تلك التي مرت في أفغانستان لم تقدم حلولا لمشكلة طبيعة الدولة بحيث يشعر المسيحي أن خصوصيته وحقوقه المدنية كمواطن محفوظة، وعلى سواسية مع سائر المكونات الاجتماعية. وفي الواقع أن القوى التي تدير أو تستثمر الاضطراب في الوطن العربي والجغرافيا الإسلامية ليست حريصة على أي نوع من أنواع دولة المواطنة في أي بلد عربي أو إسلامي. وليس في أجنداتها أن تقوم دول حديثة تأخذ بأسباب الحداثة خارج الحساسيات الدينية والمذهبية والإثنية. لذلك يخطئ كل المسؤولين الذين بتصريحاتهم يفاقمون الحساسيات ويسعّرون الفتن. يواجه الوطن العربي اليوم واحدة من أخطر مراحله التي تتوسل الوقود المذهبي والديني والإثني لتمزيق وحدته فيما جوهر هذا الصراع هو منع الأمة من أن تكون سيدة نفسها في ظل قيم الحرية والتسامح والإرادة المستقلة.