15 سبتمبر 2025
تسجيلبمناسبة مباركتنا جميعا لدولة قطر حكومة وشعبا باليوم الوطني الذي شارك في احتفالاته كل من يحب وطنه ويشعر بضرورة الانتماء إليه والدفاع عنه، فإننا نبارك لجميع الدول العربية والإسلامية إحياء ذكرى أيامها الوطنية القائمة على أساس الدين والحرية والحق والعدل، ولعل من عظيم الفائدة أن نذكر بعضنا بعضا بوجوب معرفة أمجادنا الوطنية والمعنى الصحيح لها ونؤكد على قضية أهمية الوطن للناس ومن الذي يعتبر وطنيا بحق ومن الذي يوضع في خانة الأدعياء والمتاجرين باسم الوطن دون صدق وإذا سرنا على نهج الألى في الشعار والتطبيق، فإننا نرى كيف أن الوطنية الصادقة قولا وعملا وحالا، إنما تعنى المحبة الحقيقية للوطن والقيام بواجباته وحقوقه التي تجلب له المصالح النافعة وتدرأ عنه المفاسد الضارة، دون استناد إلى عصبية قبلية ولا إقليمية عنصرية تختزل المعنى في مظلة منغلقة لا تنفتح على شعبها والناس ضمن ضوابط الدين والأخلاق والمروءة، إن مثل هذه الوطنية هي التي تعتبر أساس بناء التقدم وأعمدة الرقي حقا فإذا ما انحرفت عن ذلك بتقديس الوطن على حساب المبادئ والثوابت، أو حصرته بالجغرافيا الأرضية فقط أو جعلته مذهبا فكريا حصاديا لماضي الأمة وحاضرها ومستقبلها فقد جاوزت الحد ودخلت في عالم الأوهام على حساب الحقائق لأنها ستكون وطنية حزبية لا نفع للناس منها استراتيجيا، حيث إن الوطنية الحقة هي التي تكون ينبوع العمل والتضحية لجميع الناس لا كلمات رنانة في وعاء صغير ولذلك يشير القرآن الكريم بصراحة إلى هذا المعنى (... وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، "الحجرات: 13". فقد جعل الناس إخوة في الإنسانية للتعارف والتعاون وبما لا يناقض الأسس المتواضع عليها بشريا، ومن هنا كانت أهمية الأوطان الخاصة والعامة في الإسلام فقال الشاعر: وكلما ذكر اسم الله في بلد عددت أرجاءه من لب أوطاني وجاء التأكيد بطلب الرحمة لجميع الناس ما لم يحاربونا ويظلمونا، ففي الحديث الذي خرجه الطبراني وقال عنه الهيثمي رجاله رجال الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم حث الصحابة على الرحمة فقالوا: كلنا رحيم فقال: ليس برحمة أحدكم صاحبه إنما برحمة سائر الناس، وكيف لا وقد أرسله الله رحمة للعالمين جميعا وهكذا فكما أن المسلم يعتبر أن جنسيته هي عقيدته التي هي وقود الوطن، فكذلك يعتبر أن الدنيا كلها وطنه لنشر الخير العام وقد أخذ المثل الانجليزي بهذه القاعدة فقال الأوطان ليس لها مكان، ومع هذا فإن أهمية الوطن الأم الذي يعتبر مسقط رأس الإنسان وارتباطه به مسألة فطرية متجذرة في كل نفس وكيف لا والوطن مستقرها فبه تحيا وبه تسود وهو بيئتها لعبادته ومعاشه، بل هي من أجل نعم الله عليها ومن هنا وجبت محبة الوطن ونقل الناس الحديث الذي اشتهر على الألسنة (حب الوطن من الإيمان) لكن قال علماء الحديث ومنهم العلامة محمد بن طولون الصالحي "تـ 953" هـ، في كتابه الشذرة في الأحاديث المشتهرة "ص 246": لم أقف عليه حديثا ومعناه صحيح، أقول: نعم إذ لما اشتاق الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة قال فيما خرجه الترمذي صحيحا عن ابن عباس رقم "3083" (ما أطيبك من بلد وما أحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك)، وقال لأصيل الهذلي عندما جاء من مكة إلى المدينة حسبك لا تخرلي دع القلوب تقر. ومن يعرف قيمة الوطن كالذي يخرج أو يخرج منه، ولذلك قرن الله بين حب الوطن والحياة وبين الإخراج منه فهو قتل للحياة (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعله إلا قليل منهم)، "النساء: 66"، وكذلك لما اتخذ الرسول المدينة وطنا لهجرته أصبح يحن إليها ويدعو لها (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد) كما في فتح الباري "6/87". وقال ابن حجر في الفتح "3/621"إن حب الوطن والحنين إليه مشروع. أقول: لأنه من المعروف أن هذا مركوز في جبلة المرء والذي لا يحبه أو ينفر منه غير سوي الطبع والشرع ومع هذا فلو تعارض أمر العقيدة مع الوطن قدمت العقيدة كما هاجر رسول الله والصحابة وتركوا مادياتهم في مكة وانتقلوا إلى حيث حفظ الدين والقيم ففتح الله عليهم بعد ذلك مكة وربحوا الدنيا والآخرة ورجعت إليهم ممتلكاتهم، وهكذا أحب الرسول وطنه كما أحب إبراهيم مكة ودعا لها بالأمن والرزق والمرء لا يدعو إلا لشيء يحبه، ولعل من تمام ذلك أن يقوم بحقوق وواجبات الوطن وأن يستشعر المسؤولية نحوه فيحفظ جواره والقرابة فيه ويعمره بكل ما أمر الله ليحقق معنى الاستخلاف عن الله في الأرض ويذود عنه من هجوم الأعداء والمحتلين، ويسكنه سويداء قلبه غير مغال ولامتماد على نحو ما قال الشاعر: لو مثلوا لي موطني وثنا لهممت أعبد ذلك الوثنا فالوطن حيث تسمو الحياة الحقيقية ويكرم الإنسان وينال حقوقه وإلا فقس ذلك على ما قال علي رضي الله عنه: الغنى في الغربة وطن والفقر في الوطن غربة، وكم من ناس كالذين نراهم يهربون من أوطانهم ويموت منهم الكثير غرقا في البحار أو يكون مصير الآخرين السجن مرة والتشرد والعناء أخرى بسبب الظروف الاقتصادية وظلم أكثر الحكام. إن الغريب معذب أبدا إن قر لم ينعم وإن ظعنا أو آخرين من المثقفين حرموا حتى من الكلام والرأي الآخر ففقدوا الحرية أغلى القيم بعد العقيدة. كيف يا سادتي يغني المغني بعدما خيطوا له شفتيه فلابد من شعور الإنسان بانتمائه الحقيقي لوطن يحترم الجميع وبعد ذلك لو حدثت هنات وهنات وأخطاء محتملة فنقول: بلادي وإن جارت علي عزيزة وأهلي وإن ضنوا علي كرام فالوطن هو الأم والدم اللذان لا يحيا إنسان إلا بهما والمواطن الحق الصالح هو الذي يعمل أكثر مما يتكلم والرجل المصلح الوطني المخلص كما يقول شكيب أرسلان هو الذي يفكر ويعمل لحاضر ومستقبل الأجيال، أما السياسي –أي بالمصطلح المعاصر: فهو الذي لا يفكر إلا بالانتخابات حفاظا على مصلحته الخاصة ورئاسته أقول: وقد ضرب لنا تاريخنا العظيم أروع الأمثلة في المواطن الوطني القائد كرسولنا العظيم وصحابته المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان في السلم والحرب ولعل المقام يقتضي أن نذكر أن من أعظم مؤسسي دولة قطر الشيخ قاسم بن محمد آل ثاني رحمه الله فقد كان مجلسه عامرا بالعلماء والأدباء وكان سليل علم وسياسة وخطيبا وشاعرا وقاضيا وفارسا وتاجرا ومحسنا فوق كونه حاكما وكان ضد الامتيازات الأجنبية ومصلحا يحقن الدماء، حيث منع حملة عسكرية عثمانية على نجد بتشاور مع السلطان وكان يقدم التاريخ الهجري نحسبه والله حسيبه صالحا سائلين الله أن يبقى حديث الخلف عن السلف. وكل عام وأنتم بخير.