18 سبتمبر 2025
تسجيلخلال الخمسينيات والستينيات ارتبطت مصر بعلاقات وثيقة مع روسيا (الاتحاد السوفيتي)، قبل أن يقوم الرئيس الراحل أنور السادات بطرد الخبراء الروس وتوقيع اتفاق سلام منفرد مع إسرائيل عام 1979، وهو ما وفر لمصر مصدرا بديلا للمساعدات العسكرية خلال العقود التي تلت، وكبّلها بقيود من التبعية السياسية والاقتصادية لكل من أمريكا وإسرائيل. ومنذ ذلك التاريخ دخلت مصر في فلك السياسة الغربية، وتوقفت عن الرهان على الشرق، بل ولم تستشعر أى نوع من الحسرة إثر تفكك الاتحاد السوفيتي، كما لم تحاول أن تستأنف علاقاتها مع وريثه الروسي بأي شكل من الأشكال. ولكن مؤخرا بدأ تقارب لافت للنظر يحدث بين البلدين، حيث شهدت مقرات وزارتي الدفاع والخارجية عدة جلسات لتنسيق مواقف الجانبين حول عدد من الملفات. الأمر الذي دفع المحللين إلى البحث عن أسباب عودة الروس إلى مصر. موقع "روسيا اليوم" اقترح ثلاثة احتمالات تعكس وجهة النظر الرسمية بدرجة ما: الأول هو "ضعف السياسة الخارجية الأمريكية تجاه المنطقة" (والتي تشهد عزوفا عن التدخل في المشاكل الدولية بشكل عام ومشاكل الشرق الأوسط بشكل خاص)، الاحتمال الثاني هو "نجاح الدبلوماسية الروسية" في المنطقة (وذلك على أساس أن الأداء الروسي في الأزمة السورية نجح في إطالة عمر النظام السوري وجنبه ضربة شبيهة بالضربة التي وجهت لنظام القذافي بليبيا)، أما الاحتمال الثالث فيتمثل في حاجة الدول العربية إلى حليف بعد تداعيات الربيع العربي (خصوصا في الأنظمة التي تعثر فيها الربيع العربي، على اعتبار أن روسيا قدمت نفسها لهذه الدول بوصفها راعية لقوى الوضع الراهن). أما في مصر فقد صاغ الإعلام الموالي للانقلاب هذا التقارب في إطار عبارات شديدة الاحتفاء، مثل، "مصر تنهي تبعيتها لأميركا"، و"القاهرة تستجيب للمطالب الشعبية وتضع حدا للتعاون مع القوى التي تسعى للتدخل في شؤونها الداخلية (والمقصود الولايات المتحدة بطبيعة الحال). ولكن بخلاف هذه العبارات الرنانة لا يوجد ما يدل على أن التوجه الحالي للسياسة المصرية يعكس قراءة دقيقة لحالة النظام الدولي أو رؤية إستراتيجية للعلاقة بين مصر والقوى الكبرى. فحالة النظام الدولي لا توحي بأن مناورات الحرب الباردة يمكن إحياؤها من جديد، فروسيا اليوم لا تمتلك المقومات الكافية لكي تزج بنفسها في صراع على الهيمنة العالمية، كما هي لا تمتلك الأيدلوجية التي تبرر دخولها مثل هذا الصراع. ومن ناحية أخرى فإنه ليس لدى روسيا الكثير مما يمكن أن تغري به الآخرين، خاصة أنها في إطار سعيها لاستعادة دورها في مجريات السياسة العالمية تصطف دائما في الجانب الخطأ، فروسيا حاليا تقف في صف نظام قامع لشعبه وآخر انقلب على إرادة شعبه، ما يجعل الآثار الإيجابية لسياستها الخارجية الجديدة محدودة للغاية. من ناحية أخرى يُخشى ألا يكون التقارب المصري الروسي وليد رؤية إستراتيجية للعلاقة بين مصر والقوى الكبرى، وإنما مجرد رد فعل كيدي إزاء قرار إدارة أوباما إيقاف جزء من المساعدات العسكرية المقررة لمصر بموجب اتفاقية السلام، وهو ما قد يفسر السرعة التي اتخذ بها قرار التقارب المصري الروسي، كما قد يفسر المنطق (أو بالأحرى اللامنطق) الذي بموجبه يقوم نظام يفترض أنه انتقالي ومؤقت بإبرام عقود طويلة الأجل تكبل السياسة المصرية لأجيال قادمة. الأسوأ من المكايدة أن يكون التحول الحالي في السياسة الخارجية المصرية مجرد مجاملة للموقف الروسي الذي تعاطي إيجابيا مع النظام الانقلابي. ففي الوقت الذي دأبت فيه وزارة خارجية حكومة الانقلاب على القيام بزيارات مكثفة إلى عواصم العالم لـ"شرح حقيقة الأوضاع بمصر"، ومحاولة إقناع الخارج بأن ما شهدته مصر هو ثورة ثانية وليس انقلابا، وان ما يقوم به النظام الجديد من محاكمة الرئيس المنتخب ليس ردة عن الديمقراطية ولكنه تفعيل لها (!)، كانت روسيا هي الدولة الكبرى الوحيدة التي تعاطت إيجابيا مع هذه الجهود، معتبرة أن ما يجرى بمصر شأنا داخليا، ومبدية استعدادها للتعاون مع من هو في قمة السلطة أيا كان الأسلوب الذي اتبعه للوصول إليها. التحول في السياسة الخارجية المصرية باتجاه الروس كان من الوارد أن يكون موضع احتفاء لو كان يصب فعليا في حماية الاستقلال الوطني وينهى حالة التبعية السياسية والاقتصادية اللذين ميزا فترة مبارك، ولم ينجح مرسي في الفترة القصيرة الذي تولى فيها من أن ينعتق من آثرهما على نحو تام. ولكن الخطير بحق أن يكون هذا التحول ترجمة لسياسة "الملاذ الأخير"، والتي تضحي بالاستقلال الوطني على مذبح المساندة السياسية والعسكرية، وذلك بعد أن أصبحت البدائل أمام الانقلابيين محدودة للغاية وصارت تكلفة الانقلاب أكبر من أن يتحملوها بمفردهم. وتدعم السوابق التاريخية مثل هذا التحليل، ففي أواخر الستينيات وبعد أن وصلت الأزمة المصرية الإسرائيلية إلى حدودها القصوى بقيام إسرائيل بضرب العمق المصري، لجأت القيادة الناصرية — في ذروة حديثها عن الكرامة والاستقلال الوطنيين— إلى مطالبة الروس بتوريد أطقم من الطيارين بالإضافة إلى أطقم الطائرات السوفيتية، لكي يحلقوا بطائراتهم للدفاع عن الوطن المصري، في سابقة كانت الأولى من نوعها. الأداء الحالي للانقلابيين يوحي بأنهم قد لا يمانعون من إعادة الكرة، مستغلين رغبة الروس في تدعيم موقعهم في الشرق الأوسط بعد أن تخلخل وجودهم أمام السواحل السورية. وثمة تقارير في هذا الصدد تفيد بأن موسكو تسعى بالفعل إلى إيجاد قاعدة بحرية لأسطولها في البحر المتوسط، وبحسب مواقع إخبارية عالمية، فإن مسؤولين مصريين أبدوا استعدادهم لبحث إقامة قاعدة لإمداد وصيانة السفن الروسية قبالة الشواطئ المصرية. هذه التسريبات لو صحت فإنها تعني أن التقارب مع روسيا لا يعكس مجرد سياسة خارجية فاشلة لنظام الانقلاب، ولكن ارتدادا عن مفاهيم الاستقلال الوطني والأمن القومي والتي يحاكم الرئيس المنتخب - للغرابة الشديدة - "بزعم" انتهاكه لهما.