10 سبتمبر 2025
تسجيليتصاعد الحديث أكثر فأكثر عن روسيا كمنافس للولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط وذلك على ضوء الانسحاب الأمريكي التدريجي من المنطقة، وخاصة الانسحاب الأخير من سوريا والتخلي عن حلفاء واشنطن الأكراد المعروفين بقوات سوريا الديمقراطية "قسد". ومما زاد من حماس البعض للقوة الروسية الصاعدة زيارة الرئيس الروسي الأخيرة للمملكة العربية السعودية. لكن هل فعلاً أصبحت روسيا منافساً حقيقياً لأمريكيا؟ ماذا يملك الروس غير السلاح؟ لم يعد خافياً على أحد أن الحاكم الفعلي للعالم لم يعد القوى الكبرى، ولا حتى القوة العسكرية التابعة لتلك البلدان العظمى، فحتى الجيوش في هذا العالم أصبحت أذرعاً للحيتان الاقتصادية والتجارية. وهذا يؤكد أن حتى الجيوش والقوى العسكرية في الدول العظمى ليست صاحبة اليد العليا، بل قد تكون مجرد أداة في أيدي القوى الاقتصادية التي تتحكم بمفاصل السياسة وباقي القطاعات. فهي التي تختلق الحروب والصراعات، وهي التي تستخدم الجيوش من أجل مصالحها الاقتصادية. وعندما نعلم أيضاً أن المؤسسات الحزبية والسياسية كالبيت الأبيض والكونغرس ومجلس الشيوخ في بلد مثل أمريكا كلها تخضع لجماعات الضغط المالية والاقتصادية والشركات العظمى، فهذا يعني أن السلطة السياسية في تلك البلدان أيضاً مجرد عتلة في أيدي المتحكمين برؤوس الأموال ومفاصل الاقتصاد. وعندما يكون مصير السياسيين والمؤسسات السياسية كلها في أيدي أصحاب النفوذ المالي والاقتصادي، فهذا بدوره يؤكد أن من يحكم العالم ليست المؤسسات السياسية ولا العسكرية في الدول العظمى، بل المؤسسات المالية والاقتصادية. وهذه أصبحت بديهيات نعرفها منذ عشرات السنين. ولو نظرنا إلى القوة الهائلة للأذرع المالية للغرب كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي لوجدنا أن العالم أجمع باستثناء أمثلة قليلة جداً، يخضع خضوعاً تاماً لإملاءات البنك الدولي ووصفاته الاقتصادية التي يفرضها على الكثير من البلدان الصغيرة والكبيرة. وما لا تستطيع أمريكا تحقيقه بالقوة العسكرية صارت تحققه بالاقتصاد والضغوط الاقتصادية التي أصبحت سيفاً مسلطاً على رقاب العالم. وبما أن الشركات العابرة للقارات أصبحت تتحكم بأرزاق البشرية وأمورها قاطبة، فما هي القوة الاقتصادية التي تملكها روسيا كي تشارك في حكم العالم؟ فإذا كانت أمريكا والدول الأوروبية الغنية والقوية هي مجرد أدوات في أيدي الشركات الكبرى، فكيف يتحدث البعض عن أن روسيا تريد أن تصنع نظاماً دولياً جديداً، وتريد أن تشارك في التحكم بدفة الأمور في العالم؟ إن محل روسيا من الإعراب في عالم السيطرة الاقتصادية والمالية والتكنولوجية والصناعية والدوائية والغذائية في محل مجرور أو مفعول به أو حتى لا محل لها من الإعراب، فليست هناك شركة روسية واحدة غير شركة غاز بروم التي يمكن أن تضاهي أصغر وأتفه شركة غربية أو أمريكية. ما عدا ذلك، فإن روسيا لا تمتلك ذراعاً اقتصادياً ولا مالياً، وهي تكاد تكون مثل بقية الدول المنتجة للنفط التي ينهار اقتصادها بمجرد نزول سعر البرميل. وحدث ولا حرج عن الناتج القومي الروسي الهزيل الذي يُعتبر مجرد فكة بلغة الأرقام المالية والاقتصادية الغربية. فكيف إذاً تريدون منا أن نصدق أن روسيا تريد أن تشارك في قيادة العالم إذا كان الحاكم الحقيقي والفعلي للعالم هو الشركات العملاقة، التي لا تمتلك روسيا شركة واحدة منها، والتي تمسك بكل زمام الاقتصاد والنفط والغاز والطاقة والتكنولوجيا والغذاء والدواء والبنوك؟ قبل أن تناقشوا محل الدول من الإعراب على الساحة الدولية يجب أن تنطلقوا من بديهيات اقتصادية لا تخطئها عين، وكل من يحلل مكانة الدول ومدى قدرتها على التحكم بالعالم يجب أن ينظر قبل كل شيء إلى أذرعها المالية والاقتصادية، وتحديداً إلى قوة شركاتها العابرة للقارات. ماذا تصدر روسيا للعالم بربكم كي تكون لها اليد الطولى في هذا العالم الرهيب المحكوم بقوة المال والأعمال؟ هل تصدر سوى السلاح لسوريا وكوريا الشمالية والهند أحياناً؟ هل تصدر روسيا أياً من التكنولوجيا التي تحرك العالم من أقصاه إلى أقصاه كأجهزة الاتصالات العملاقة؟ هل تصدر أياً من أدوات الرفاهية التي تجتاح العالم كالإلكترونيات وغيرها؟ هل اشترى أحدكم يوماً جوالاً روسياً أو حتى دراجة هوائية روسية؟ دلني على أي صناعة روسية تستطيع أن تنافس عالمياً. دلني على جوال صناعة روسية. دلني على أي سلعة إلكترونية كالتي تغزو كل البيوت في العالم من صناعة روسيا. دلني على أي ماركة روسية مشهورة. هل سمعتم يوماً بأي نوع من الألبسة صناعة روسية؟ هل هناك دار أزياء واحدة في موسكو؟ هل سمعتم يوماً بمصمم أزياء روسي واحد. دلني على شركة دواء روسية معروفة، وتستطيع المنافسة خارج حدود روسيا مع شركات الأدوية الأمريكية والغربية التي تغزو العالم وتتحكم حتى بكبريات الحكومات الغربية. دلوني على بنك روسي واحد معروف خارج روسيا. قد تكون روسيا عملاقاً عسكرياً بفعل قدرتها العسكرية والنووية تحديداً. لكننا نعلم أن القوة العسكرية والنووية لم تحم الاتحاد السوفياتي نفسه من السقوط، فما بالك أن تحكم العالم الذي أصبح كله تحت هيمنة القوى الاقتصادية وليس العسكرية. باختصار، فإن القوى التي تتحكم باقتصاد العالم تستطيع أن تحتل العالم اقتصادياً، بينما لا تستطيع أي قوة عسكرية مهما بلغت من جبروت أن تحتل العالم. شاهدنا كيف هزمت أفغانستان الفقيرة الاتحاد السوفياتي عسكرياً، وكيف هزم العراق أمريكا أيضاً. لاحظوا أن روسيا تمكنت من احتلال سوريا عسكرياً، بينما كانت أمريكا من قبلها احتلت سوريا اقتصادياً عبر ذراعها الرهيب البنك الدولي. مخطئ من يعتقد أنه يستطيع أن يُخضع العالم عسكرياً كما تحاول روسيا، لأن السيطرة الحقيقية ستظل في عصر التكنولوجيا والصناعات والاتصالات للقوى الاقتصادية وليس للعسكر. روسيا مارد عسكري، لكنه قزم اقتصادي، ولا يمكن للأقزام أن يشاركوا في صناعة نظام دولي يخضع كلياً لقوة المال والأعمال والتكنولوجيا والشركات العابرة للحدود. من حقك يا سيد بوتين أن تتنمر على العالم، وأن ترهبه بأذرعك العسكرية الجبارة، لكنك تبقى مجرد بلطجي مدجج بالسلاح يستطيع أن يرهب الجميع، لكنه لا يتقن سوى البلطجة. من المبكر جداً التصفيق لروسيا كمنافس لأمريكا، فهي تبقى في أحسن الأحوال مجرد تابع. وقد صدقت رئيسة مجلس النواب الأمريكي بيلوسي قبل يومين عندما قالت حرفياً: "إن بوتين يتوسل إلى ترامب منذ فترة للحصول على موطئ قدم في الشرق الأوسط، وقد منحه الأمريكيون ذلك بما يخدم المصلحة الأمريكية"، وبالتالي فإن النفوذ الروسي المتصاعد في المنطقة ليس نتيجة القوة الروسية بقدر ما هو منحة أمريكية. [email protected]