20 سبتمبر 2025
تسجيللأن الرجل لا يحب الخوض في السياسة، ولأن ورعه يسلبه الجسارة على اجترار مرحلة تاريخية مهمة من التطور السياسي في السودان، فمن باب أولى أن نتجاوز الحديث عن المواقف السياسية إلى مواقفه الإنسانية ولو قلنا أنه معجزة عصره في التجرد والنزاهة لما قلنا شططا، فهو صاحب طبع نافذ وخاطر عامر وقريحة ثاقبة وكياسة نادرة. والمناسبة التي دعتنا إلى أن نومئ على استحياء إلى بعض سمات تفوقه وعظمته، مناسبة مغادرته دنيانا الفانية في صمت وقور. فقد حملت أنباء صباح أمس الأول الخميس رحيل المشير عبد الرحمن محمد حسن سوار الذهب الرئيس السوداني الأسبق، الذي سلم السلطة وتنازل عنها طواعية للمدنيين ولم تفلح محاولاتهم ورجاءاتهم للبقاء عاما واحدا أو بضعة أشهر ريثما تكتمل استعداداتهم لتسلمها. كان سوار الذهب يقينا ناهضا في منصة الأستاذية يعطي دروسا عميقة الدلالة في السياسة والأخلاق، تلك السياسة التي طالما جعلها السياسيون مستنقعا آسنا. ليواصل بعدها عطاءه مقدما دروسا في الدعوة والعمل الإنساني قرعت الأسماع. في ابريل 1985 تحمل بكل مسؤولية وجسارة مهمة أعباء السلطة إبان انتفاضة الشعبية ضد الرئيس الأسبق جعفر نميري، بصفته أعلى قادة الجيش رتبة وبتنسيق مع القيادات السياسية حينذاك وبعد قيامه بتسليم السلطة بعد عام واحد لم يزد يوما واحدا لحكومة منتخبة ترأسها الصادق المهدي. ثم اعتزل العمل السياسي وعكف على عمل الدعوة الإسلامية. معيدا سيرة التابعي الجليل معاوية بن يزيد الذي ترك الحكم ولم يقبل توليه. ولم تزد سوار الذهب انطفاء أضواء والسلطة وزخارفها إلا ألقا وعظمة، فلم نره بعدها إلا محفودا محشودا مخدوما يجتمع الناس حوله ذلك ليس لشيء إلا لأن نصيبه من كمال الأخلاق الذي يُعشق عادة لم يرزق بمثله رجل معاصر. ولعل اختياره لرئاسة أكبر منظمة دعوية في إفريقيا والتي ويعود الفضل إليها في تشييد المساجد، والمستشفيات، وملاجئ الأيتام ومراكز رعاية الطفولة، اختيار صادف أهله. بل إن المنظمة ارتفعت قامتها بوجوده على سدتها. وقبل سوار الذهب هذا التكليف بقناعة تامة تنطلق من إيمانه العميق بأن ميدان الدعوة والعمل الاجتماعي من أشرف الأعمال وربما أقربها إلى فطرته السليمة. كثيرة هي القضايا التي شغلت بال الرجل وهي قضايا تتسامى فوق الجهوية والإقليمية والقُطرية لتظلل بشموليتها الأمة العربية والإسلامية بل كل الأمم المستضعفة التي تسمى بدول العالم الثالث. فقد قدم بحوثا في مؤتمرات كثيرة عن الإسلام والدعوة إليه، والتحديات التي تواجهه، وذلك على المستوى الإسلامي والعالمي. ويرى أن الغرب أو العالم «الأول» يحاول باستمرار إتلاف عقول الشباب المسلم باستهداف هويته وعقيدته. وهذه المواقف بالطبع لم تؤهله ليكون أمينا عاما للأمم المتحدة وهو جدير بالمنصب ولا حتى لنيل إحدى جوائز نوبل. لقد حاولت قبل نحو أكثر من 10 سنوات إجراء حوار صحفي معه في إحدى زيارته للدوحة وما أن أبُلغت بموافقته حتى ذهبت راكضاً بمعية المصور، فقد بهرني تواضع الرجل وايجابيته وصدق توجهه لخدمة الإسلام والمسلمين، لكنني كنت أنظر للحوار من زاوية غير التي توقعها المشير، فما أن استشرف زاويتي السياسية لهذا الحوار بعد الاستقبال والترحاب حتى رأيت ثغره يفتر عن ابتسامة كضوء الفجر طالبا أن يكون الحوار بعيدا عن السياسة ومرتكزا على العمل الاجتماعي والدعوي وفي محاولة يائسة مني لإقناعه أوعزت للمصور بالانصراف اعتقادا مني أن ذلك سوف يساعد في إزالة بعض التوتر الذي شاب الموقف نتيجة للفهم المتباين لاتجاه الحوار، لكن الرجل ظل مصرا على موقفه وعلى عدم تعاطي السياسة حتى ولو من زاوية اجترار الماضي. ولا شك أن الرجل لا يخاف السياسة أو يهابها فقد كان سياسيا محنكا تسلم السلطة عندما رأي أن المصلحة الوطنية تتطلب ذلك وسلمها بعد أن أشرف على انتخابات نزيهة وشفافة. فالسياسة عنده ليست غاية في حد ذاتها فهي وسيلة لخدمة الوطن والمجتمع وطالما توفر له أن يخدم أمته وهذا مجال أوسع من وطنه السودان عبر وسيلة أخرى وهي الدعوة والعمل الإنساني فبها ونعمت.