14 سبتمبر 2025

تسجيل

الصراع بين الحقيقة والتضليل في إسطنبول

20 أكتوبر 2018

منذ الثاني من أكتوبر الجاري والعالم يتساءل عن مصير الصحفي والكاتب جمال خاشقجي. مئات المؤسسات الإعلامية حشدت مراسليها في إسطنبول لاستقصاء الحقيقة وتقديمها للرأي العام العالمي. وهكذا بدأت حربا خفية ضروسا بين جهة تحاول أن تتستر على الجريمة بكل الوسائل والطرق، وجهة أخرى تحاول الوصول إلى الحقيقة بأدلة دامغة وثابتة. في خضم هذا الصراع ضاع المنطق وضاع العقل وضاعت أبجديات الأخلاق. المعروف أن دور ووظيفة أي سفارة أو قنصلية لأي بلد في العالم هي حماية مصالح هذا البلد ومواطنيه في بلد الاستقبال. في إسطنبول تغيرت القيم والوظائف والمهام وأصبحت القنصلية مسرحا للتصفية الجسدية لمواطن كان بكل بساطة يطلب وثائق لإتمام زواجه من خطيبته. من جهة أخرى نلاحظ موقف العديد من المؤسسات الإعلامية العربية التي تعاملت مع الحدث وكأنه «لا حدث». صمت كامل ومستمر لمدة أسبوع ثم بعد ذلك انطلقت أبواق الدعاية والتضليل والتستر على جريمة منظمة على أعلى مستوى. وتفنن محامو الشيطان في تقديم تحاليل وتعليقات واهية لا يصدقها حتى أصحابها ودخلنا في منطق «ان لم تستح فافعل ما شئت». هذا ليس غريبا على العديد من المؤسسات الإعلامية في المنطقة. مؤسسات شغلها الشاغل هو التنظير والتسبيح والمدح لصاحب الجلالة مهما كانت القرارات والأعمال والنتائج وحتى ولو هلكت الأمة بأسرها. المهم أن جلالته على حق وعلى صواب والأمة بكاملها تشكره وتحمده على نعمه وخيراته وسخائه. ما حدث في إسطنبول وصمة عار على من يدعي الديمقراطية والحرية والرأي والرأي الآخر. جريمة في ضوء النهار. دخل الرجل ولم يخرج. وهناك إصرار مع الأسف الشديد أن القنصلية غير مسؤولة والمملكة كذلك. وهذا يشير مع الأسف الشديد إلى مكانة المواطن العربي عند دولته. مكانة المثقف الذي كان يعبر عن أفكاره والتي يرى فيها مصلحة الأمة. خاشقجي كان يرفض كلمة «معارض» ويقولها صراحة أنا لست معارضا، بل لذي بعض الأفكار قد لا أتفق من خلالها مع صاحب القرار. فهل الاختلاف في الرأي أو في الطرح أو التحليل يسمح للسلطة أن تقوم بحبس وسجن وقتل من يدلي برأيه. وهنا نعود إلى موضوع السلطة والمثقف ونعود إلى طرح السوق الحرة للأفكار ونعود إلى الفضاء العام والمجتمع المدني. مع الأسف الشديد المرحوم جمال خاشقجي يُغتال ويُقطع جسمه إربا إربا والصحفيون العرب من المشرق إلى المغرب يتفرجون ساكتون غير مبالين وكأن الأمر لا يخصهم. بل أكثر من هذا أن بعض أشباه الصحفيين والأقلام المأجورة وشاهدي الزور تفننوا في التعتيم على الجريمة والإصرار على أن الموضوع حملة إعلامية شعواء وشرسة ضد السعودية. وهنا قمة الانجراف الأخلاقي والانحطاط المهني والدفاع عن الفساد والظلم والاستبداد وإهانة المواطن وقتله واغتياله بدون حق. فساد في الأرض ينّظر له من كان من المفروض يكشف عن الحقيقة ويحارب الفساد والطغيان والاستبداد. ما حدث في إسطنبول وصمة عار على من يدعي الإسلام والتسامح والحوار والديمقراطية والنقاش من أجل الفكر الحر المستنير الذي يفيد الأمة في انتهاج الطريق والسبيل السليم الذي يعود بالفائدة على الأمة. فثقافة التخويف والترهيب التي ينتهجها المستبد والطاغي لا تقود الأمة إلى بر الأمان والاستقرار والطمأنينة والرفاهية والازدهار. كيف يحترمنا الآخر ونحن نقتل مثقفينا ومفكرينا وكل من له رأي صائب ووجيه، لكن مع الأسف الشديد مختلف عن رأي الطاغية. جريمة منظمة ومدروسة تقترفها جهات على أعلى مستوى ضد مفكر عبر عن رأيه ليس إلا. والغريب في الأمر أن زميله في المهنة يتستر على الجريمة ويقوم بحملة تضليل وتشويه للدفاع عن المستبد والطاغية. وهنا تطرح إشكالية كبيرة جدا تضرب العلاقة بين الصحفي والمواطن في الصميم. كيف تكون هناك ثقة وتفاهم وتناغم وتلاحم بين المواطن والصحفي إذا كان هذا الأخير يكذب ويضلل ويتستر عن قضايا الفساد وعن الجرائم والاغتيالات والتصفيات الجسدية. كيف يكون فضاء عاما وسوقا حرة للأفكار عندما تُقمع الأفكار وتُغتال في مهدها. وعلى حد قول أحدهم « في بلادنا يسجنونك بمجرد أنك تفكر في شيء، حتى قبل أن تتفوه به أو تدلي به للرأي العام». فما بالك في القول والعمل. وبهذا الأسلوب انتشر النفاق والتضليل والتعتيم وانتشر الفساد في البلاد وأصبحت العباد لا تفرق بين الصحيح والخطأ. عندما يأتيك الصحفي من خلال فضائية عربية في تغطيته لحادثة إسطنبول ويقول إن الأمر كله مجرد حملة إعلامية شعواء وشرسة على المملكة العربية السعودية وهناك دول تريد النيل من المملكة ومن سمعتها وانجازاتها ونجاحاتها في المنطقة. وحتى التبريرات والتحاليل والتفسيرات لا ترقى الى أن تقدم لطفل صغير ولا تحترم ذكاءه. فالطامة الكبرى هنا هي أن عملية الاستهتار والاستخفاف بعقل المواطن العربي أصبحت من الأعمال الروتينية اليومية لصناع الرأي العام وفبركته و»تفصيله» وفق مقاس الحاكم في المنطقة. الشعوب العربية لا تستطيع أن تنهض وتزدهر وتنمو وتتطور في مناخ ملوث بالنفاق والكذب والقرارات الانفرادية والفردية والشخصية التي لا تستند إلى دراسات وابحاث ومشاورات وتداولات، وإنما ترتكز أساسا على مزاجية وعنجهية وغطرسة الحاكم. ما حدث في اسطنبول ما هو إلا مثال بسيط لتعامل السلطة مع الصحفي والمثقف والمفكر الذي يريد أن يساعد أمته وشعبه بفكر ورأي قد يكون صائبا أو خاطئا لكن لا يكون على الإطلاق مبررا للسجن والحبس والمضايقات والقتل والتصفية الجسدية. ثقافة التصفية والتهميش والاعتقالات قضت على شيء اسمه حرية التفكير والتعبير وحرية الرأي التي تمثل عوامل للإبداع والابتكار والتميز. الإعلام العربي ما زال مع الاسف الشديد يعاني من انعدام المهنية والحرفية والمبادئ الأخلاقية وأصبح حسب الطلب يتلون ويفصل خطابا إعلاميا على مقاس السلطة ولو كان ذلك افتراء وكذبا وتلفيقا وطمسا للحقائق والأحداث والوقائع وتسترا على جرائم وقضايا فساد ونهب المال العام. فالسكوت على الجريمة يعتبر قانونيا جريمة ويعتبر مشاركة فيها. وماذا يفكر الأطفال والناشئة عندما يكتشفون أن تلك الصحيفة أو الإذاعة أو الفضائية كانت تكذب وتقدم أخبارا وتقارير زائفة عارية من الصحة. ما هي الأخلاق والقيم التي يتربى عليها المجتمع والناشئة في ظل هذه الممارسات التي تتنافى جملة وتفصيلا مع الدين الحنيف والقيم الإنسانية. [email protected]