11 سبتمبر 2025
تسجيلذات يوم سمعت "محمود الهباش" وكان يومها وزير أوقاف محمود عباس في رام الله - يتحدث عن فقهٍ أسماه " فقه التنازلات " يقصد به جمع الأدلة الشرعية وضم اجتهادات العصر وتقديرات الأحوال وصولا إلى منظومة متدرجة من التنازلات أمام العدو الصهيوني .. استهجنت يومها كل الفكرة وإن ظلت تدور في ذهني فمرة أتذكرها ومرة أنساها ولكن على قاعدة الرفض . وبعد تفكير وتقليب وجدت المشكلة مع الفكرة ليست في ذاتها فجوهرها منطق سياسي واقعي يمكن تنزيل الدين والنصوص عليه بطريقة صحيحة فيكون إبداعا وفتحا من الفتوح في الدفاع عن وجود الأمة وخاصة أبنائها بكيفية أخرى ، ووجدت مشكلة هذه الفكرة فمن أربع جهات تصرف الناظر فيها عنها لأول وهلة .أما الجهة الأولى فإن الذي أطلقها يعمل وزيرا في سلطة وجدت لتقديم التنازلات للعدو وفي ذلك ما فيه من إساءة الظن فيها ، والجهة الثانية أنها - بالسياق الذي تأتي فيه - تحاول امتطاء الشريعة لتبرير المزيد من التهرؤ بما يصدق على الدين دعوى أنه " أفيون الشعوب " التي راجت وتوجهت ذات مرة ، أما الجهة الثالثة ففي تسميتها " فقه التنازلات " وهي تسمية فجة صادمة لقوم مثلنا يعانون من تكدس وتراكم الهزائم ، وأما الجهة الرابعة فإن مطلقها جاء يخاطب بها المضمون الإسلامي للمقاومة وهو استفزاز آخر لتنظيمات بنيت لرفع السوية الثورية وليس للمزيد من التخفيض والتخريب .الفكرة في ذاتها لا أرى فيها ما يذم إن وضعت و" حُذفِرَتْ " على أصول الدين الصحيحة ، وانضبطت بمفهوم النصوص الصريحة ، وقامت على تقدير صحيح للواقع وضروراته ، ووضعتها المقاومة في سياق توسيع هوامش العمل السياسي الإسلامي الذي يعاني كثيرا من الجمود ( على منطق الاستعلاء المطلق ، والدوران مع الذات النرجسية ، وتكبير الخلافات وتصغير الجوامع مع شركاء الوطن ) ويعاني من وهم الصواب المطلق والخلط بين النص المقدس والفهم غير المعصوم ومن أبدية وشمول المواجهة ومن تقسيم الناس إلى حلفاء يتطابقون فهما واتجاها ، أو أعداء وهم الكثرة داخل وخارج الوطن .الفكرة يا سادة تدور حول " طريق ثالث " بين الحدين اللذين لم يحسن كثير من الإسلاميين التنسيب بينهما وربط الممكن بالممكن منهما ؛ حد الثوابت الفقهية والعقدية المشرعة لأحوال الوسع ، وحد الرفض العالمي لها وللإسلام واتجاهات تفعيل قوته الدعوية والجهادية .والمطروح تحديدا وعلى الإسلاميين والإخوان منهم لمكانتهم وإمكاناتهم وخطورة هزيمتهم هو أن يتوجه فكرهم الاستراتيجي للبحث الحقيقي عن الالتقاء مع شركاء الوطن ومعايشة الفكر الإسلامي مع العمل السياسي ، والتصالح مع الحالة العالمية ، وإيجاد نقاط تقاطع مع القوانين الدولية والفكر العالمي .. تكسبهم قواعد انطلاق أشمل ومساحات عمل أوسع وتنوعا في الأدوات أكثر ، من جنس المرونة السياسية ولغة المناورات والتنازلات الحقيقية وتدرجها ومعاييرها وضوابطها كالذي قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حال مكة ولم يصلح أن يقدمه في المدينة ، ومن جنس ما قبل به في صلح الحديبية وفي ثمار المدينة ولم يصلح قبل ذلك أو بعده .آخر القول : أتصور أن أي إسلامي يفهم الواقع وإشكالاته ويعي رحابة الدين ويسره لا يختلف مع هذا الطرح ، وإلا فهو الاحتباس على الموهوم - وليست كل الثوابت موهومة - وهو التلاشي والتطرف .