14 سبتمبر 2025
تسجيلذلك الفن الأدبي الأصيل الذي كاد أن يختفي بل واختفى تماماً على ما يبدو بعد أن كان من أجمل الألوان الأدبية فيما مضى حيث الرسائل المتبادلة بين الشعراء والأدباء كان ولا يزال رافدا مهما وثريا من روافد الأدب العربي تلك الرسائل احتلت منزلة رفيعة عند الناس بمختلف مستوياتهم الثقافية والفكرية لما امتازت به هذه الرسائل من خصائص فنية أدبية جعلتها رمزا أدبيا مستقلا بذاته ولذلك شدت الرسائل الأدبية اهتمام المهتمين الذي نشطوا في جمعها وتوثيقها خوفا عليها من الاندثار.هذا ما يجعل الكثير من الرسائل الخاصة ترى النور وتخرج إلى عالم النشر ليطلع عليها الجميع بالرغم من خصوصيتها والأسلوب الشخصي والمباشر فيها إلا أنها كانت تمتلك عنصر الإبهار والدهشة حيث الكلمات بعيدة عن التصنع والتعقيد أما الآن وللأسف لم تعد للرسائل تلك الأهمية ولا تلك المنزلة الرفيعة فقد دمرت التكنولوجيا الحديثة حس الإبداع والتذوق عند الأغلبية ففي عصرنا الحاضر صار العالم قرية صغيرة واحدة تصل فيها الرسالة بسرعة البرق وباختصار وبكلمات خاوية من المشاعر والإبداع وحتى من الصدق والصراحة والفضفضة الجميلة ما أدى إلى سقوط أدبي وسقوط الذوق العام والحس الأدبي في كل حرف نسطره بل نطبعه على الشاشات المضيئة انطفأت شعلة البيان والإبداع وبردت العلاقات الإنسانية التي كانت تقوى بالتعبير والبوح الجميل والشكوى بين الأخوة والأحبة وقد كتب أحد الأدباء في ذلك يقول عن الرسائل بين زمنين: لقد كانتِ الرسائلُ فيما مَضى فَضاءً رَحبًا للإنسان، يُعبِّر بها عن هَمَساتِ رُوحِه، وما يَعتَلِجُ في صَدرِه من مَشاعِرَ وأحاسِيس، ويَتبادلُ الأفكارَ والرُّؤى معَ مُراسِليه، وتتعانَقُ على صَفحاتِها المُهَجُ والأرواح. أجل لقد كانت مَيدانًا فَسيحًا لأبٍ يَمحَضُ النُّصحَ وَلَدَه النائي عنهُ في دِيارِ الغُربَة، ولأمٍّ مُشتاقَةٍ مُلتاعَةٍ إلى فِلذَةِ الفُؤاد، وقد أطالَ الغَيبَةَ والبِعاد، ولزَوجٍ يَحِنُّ إلى شَقيقَةِ جَنانِه ودِفْء قَلبِه، ولصَديقٍ يَتوقُ إلى أَخْدانِ صِباه ورُفَقاءِ دَربِه. ودَع عنكَ رسائلَ المحبِّينَ والعُشَّاق فهيَ جَمَراتُ أشواقٍ تكادُ تَضْطَرِم. ومن هُنا أن قال الشاعرُ المِهجَريُّ جورج صَيدَح حين تلقَّى رسالةً من صَديقٍ عزيزٍ:قَبَّلتُ في هَوَسٍ حُروفَ كِتابِهِ إنَّ الحُروفَ لها شِفاهٌ تُشتَهى.هذا ما كانَتهُ الرسائلُ دَهرًا؛ فإذا بها اليومَ تُختَزَلُ في كُلَمات تُخَطُّ على عَجَل بضَغطِ أزرارِ الجَوَّال، أو لوحَةِ مَفاتيحِ الحاسوب، وتُرسَلُ إلى الآخَرينَ، بارِدَةً (باهِتةً) لا رُوحَ فيها ولا حَياة! لقد ألجَأَ عَصرُ التِّقْنِيَّةِ أهلَه إلى المُضِيِّ في مِضمارِه والسَّيرِ بسَيرِه؛ راضِينَ أو كارِهين، فخَلَتِ الرسائلُ من ألوانِ الإبداعِ والفَن، وغَدَت عِباراتٍ مَألوفةً مَكرورَة، تَلفِظُها الأَجهِزَةُ إلى مُستَقبِليها كما هيَ؛ كلماتٍ بلا طَعمٍ ولا لَون! أما عن اللغة والمضمون فلم تتخلف رسائلُ عَصرِ التِّقنية في جَمال التعبيرِ وحُسنِ العَرضِ فحَسب ولكنَّها تعَدَّت ذلكَ إلى تَخَلُّفِ الفَحوى والمضمون، بَل إلى ما هُوَ أخطَرُ وأخطَر، إلى ما يَمَسُّ هُوِيَّةَ الأُمَّة، ويَفُتُّ في عَضُدِ أحدِ أَعمِدَة كِيانِها. ألا وهيَ اللغَةُ العربية التي تبدو يوما بعد يوم بحالة يرثى لها رَكيكَةِ التراكيب، مُفَكَّكةِ الأُسلوب، يتجلى فيها اللحنُ وأنواعُ الغَلَط، من لغَويٍّ، ونَحوِيٍّ، وإملائِيٍّ، وطِباعِيٍّ!في وَقتٍ أحوجُ ما نكونُ فيه إلى الارتقاءِ بأنفُسِنا وأبنائِنا في إتقانِ لغَتِهِم القَومِيَّةِ التي هي لغَةُ دينهِم وشَريعَتهِم ودُستورِ مَعيشَتِهم. في وقت نحن فيه بأمس الحاجة للتمسك بالهوية العربية التي تتجلى في اللغة العربية تلك التي باتت شيئا لا يذكر ومع الأيام ستختفي تماماً إن لم ننقذ المراكب الغارقة إلى أعماق الجهل.