12 أكتوبر 2025

تسجيل

الانتخابات الرئاسية في تونس: قراءة في نتائج الدور الأول

20 سبتمبر 2019

المشهد السياسي التونسي بصدد تغيرات عميقة وقواعد جديدة الانتخابات الرئاسية شخصية ولم تحقق المنظومة التقليدية النتائج المرجوة أزمة مبكرة للنظام تتجسد في تشظي الخريطة الحزبية أشارت نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية التونسية، التي جرت يوم 15 أيلول/ سبتمبر 2019، إلى تصدّر المرشح المستقل قيس سعيّد قائمة المرشحين، يليه المرشح نبيل القروي، في حين حلّ مرشح حركة النهضة عبدالفتاح مورو ثالثاً، بحسب النتائج التي أعلنتها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات. تباينت التحليلات حول الأسباب والدوافع التي أدت إلى هذه النتيجة، وانصرف اهتمام كثيرين إلى دراسة الانعكاسات المحتملة لهذه النتائج على توجهات الناخبين في الانتخابات التشريعية «البرلمانية» التي ستجري في تشرين الأول/ أكتوبر 2019. ◄ قيس سعيّد: كسر النمط احتل المرشح المستقل وأستاذ القانون الدستوري قيس سعيّد صدارة الترتيب، بنسبة تفوق 18 في المائة، وحلّ رجل الأعمال الموقوف بتهمٍ تتعلق بالفساد وتبييض الأموال والتهرب الضريبي، نبيل القروي، ثانياً، بنسبة 15 في المائة، بحسب النتائج الرسمية المعلنة، لم يكن تقدّم قيس سعيّد مفاجِئاً، إذ منحته استطلاعات رأي متعددة مراتبَ متقدمة، منذ أسابيع. يمثل مجموع أصوات الفائزَين معاً 33 في المائة من أصوات الناخبين الذين يشكلون بدورهم 45 في المائة من أصحاب حق الاقتراع، ليس هذا نصراً حاسماً لكنه دليل على تشظّي الخريطة الحزبية. يُعدّ قيس سعيّد من الوافدين حديثاً إلى المشهد السياسي التونسي، فقد عُرف عنه قبل الثورة انشغاله بالتدريس الجامعي والنشاطات الأكاديمية، ولم يُعرف عنه أيّ انخراط في الشأن العام، غير أنّ نجمه سطع في وسائل الإعلام، بعد سقوط الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، في عام 2011، وفي الأعوام التي تلته، فقد داوم على الظهور الإعلامي للتعليق على الإشكالات الدستورية والقانونية، خاصة أثناء تولّي المجلس الوطني التأسيسي إعداد مشروع الدستور، وحقق له أسلوبه التواصلي الخاص نسبة عالية من المتابعة بين مختلف الشرائح الاجتماعية، خاصة من الشباب؛ إذ تميز بهدوئه وتمسّكه بالحديث باللغة العربية الفصحى، واحترام قواعدها الصرفية والنحوية والصوتية، يساعده في ذلك صوته الجهوري وتلقائيته وأريحيته في الحديث، ما يوحي لدى المتابع بصدقه واختلافه عن الصورة النمطية للسياسي التقليدي، وقد تميز بأدائه في مناظرات المرشحين. على خلاف المرشحين الآخرين، لم تشهد حملة سعيّد الانتخابية مظاهرَ احتفالية أو دعائية تُذكر، كما رفض أيّ دعم مالي من المؤسسات الاقتصادية ورجال الأعمال، وظهر في صورة المرشح البسيط الذي يتوجه إلى الفئات الشابة خصوصاً، ويتواصل معها ويستمع إلى مشاغلها، من دون مرافقين أو مستشارين، واعداً بإحداث تغييرات جذرية في النظام السياسي، وكسر مركزية السلطة، ومكافحة الفساد، والحدّ من امتيازات المسؤولين. ◄ نبيل القروي: دور المال السياسي خاض المرشح نبيل القروي الانتخابات الرئاسية من السجن، بعد اعتقاله، في 23 آب / أغسطس 2019، بتهمٍ تتعلق بالتهرب الضريبي والفساد. وبصرف النظر عن مواقف أنصاره وخصومه من وجاهة التهم الموجهة إليه وتوقيتها، فإن صعود أسهمه بسرعة، خلال الأشهر الأخيرة، أثار جدلاً كبيراً في الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، ومع أنّه ترشح باسم حزب، فهو يُعدّ بحقّ مرشحاً فردياً من خارج الخريطة الحزبية. بدأ الصعود السياسي السريع للقروي قبل عامين، عندما أسّس جمعية تحت مسمى «خليل تونس»، نسبة إلى ابنه خليل الذي قضى نحبه في حادث سير، قامت الجمعية التي توصف بأنها «جمعية ذات صبغة غير تجارية»، بدور مهمّ في الترويج للقروي، من خلال جمع التبرعات والقيام بحملات لتوزيع المساعدات العينية والنقدية وإقامة الموائد في عدد من المناطق والأحياء الفقيرة، وبثّ مقاطع منها على قناة «نسمة» التي يملكها. يمثل القروي ظاهرة مثيرة للاهتمام في المشهد السياسي التونسي، رغم غيابه شخصياً عن الحملة الانتخابية. كانت الانتخابات الرئاسية شخصية وليست حزبية ولم تحقق المنظومة الحزبية والسياسية التقليدية التونسية، في الحكم والمعارضة، النتائج التي حصلت عليها في الاستحقاقات السابقة، رغم أن استطلاعات الرأي، قبل الانتخابات، منحت بعضها مراتبَ متقدمة. أمّا أحزاب المعارضة، فمُنيت المكونات اليسارية والليبرالية والوسطية بهزيمة قاسية . مثّلت النتائج الضعيفة للنخب السياسية التقليدية التي هيمنت على المشهد السياسي التونسي - عقوداً في حالة البعض - صدمة وجاءت مخالفة لاستطلاعات الرأي، غير أنّ تقدّم المرشح قيس سعيّد تحديداً، وهو الذي يفتقد أيّ حاضنة تنظيمية أو ذراع إعلامية أو مصادر تمويل، يدل على مدى تغير الظروف التي حكمت الاستحقاقات السابقة، وانهيار «الماكينات» التقليدية التي كانت توجّه طيفاً كبيراً من الناخبين، كما أنّ تفكك المنظومة السابقة وتعدد مرشحيها، وترهّل حركة النهضة بسبب مشاركتها في الحكم والخلافات التي شهدتها، في الأشهر الأخيرة السابقة لترشيح مورو، ونفور الرأي العام من الاستقطاب والتجاذبات التي طبعت السنوات الأخيرة، عوامل مهّدت الطريق أمام صعود قيس سعيّد، بدرجة أولى، ونبيل القروي، بدرجة ثانية، لقد اعتمد القروي في عمله القاعدي على كثير من المحسوبين على المنظومة القديمة، إلا أنّ العداء بينه وبين المرشحين الآخرين المحسوبين على المنظومة نفسها وإيداعه السجن، جعلاه، موضوعياً خارجها. مثّلت نتائج الدور الأول من الانتخابات الرئاسية في تونس مظاهر أزمة مبكرة للنظام تتجسد في تشظي الخريطة الحزبية وسوء الأداء الاقتصادي؛ فإضافة إلى عدم الثقة بالأحزاب، شهدت الانتخابات تصويتاً احتجاجياً على الواقع الاقتصادي، فكانت النتيجة تراجع النخبة السياسية التقليدية، حكماً ومعارضةً، تراجعاً حاداً، رغم القدرات التنظيمية والأذرع الإعلامية التي تسندها، وبصرف النظر عن الفائز في الدور الثاني، فإنّ المشهد السياسي التونسي دخل طور تغيراتٍ عميقة ويتجه إلى إعادة تأسيس نفسه على قواعد جديدة مختلفة كلياً عن السابق. ويكمن التحدي في أن تكون الديمقراطية التونسية التي صمدت في جميع الامتحانات حتى الآن قادرة على استيعابها.