31 أكتوبر 2025

تسجيل

وألقيتُ عليك محبةً مِنِّي

20 سبتمبر 2018

هل هناك من لا يسعى لأن يكون محبوباً من الناس، كل الناس؟  لا أظن أحداً يسعى إلى غير ذلك. حتى الطواغيت والمجرمين والظلمة تجدهم يبذلون ما في وسعهم لأن تكون صورتهم طيبة محبوبة لدى الآخرين. ذلك أن المسألة رغبة أو فطرة بشرية كامنة بالنفوس، حيث تجد أي إنسان في أي زمان ومكان، يرغب في أن يُشار إليه بالبنان، ويقال هذا هو المحبوب قد أتى، أو هذا الذي يسر المرء بلقائه، أو هذا الذي لا نمل جلسته، وغيرها من عبارات الترحيب الصادقة.      ماذا لو أن هذه المحبة كانت بضاعة تباع وتشترى؟ كنت سترى الأثرياء ومن في فلكهم وحولهم، أول العالمين بحثاً عنها وأول من يشتريها ويقتنيها، لماذا؟ لأن حب القلب لو كسبته، فقد كسبت إنساناً، ولو كسبت الناس فقد ربحت دنياك قبل آخرتك دون أدنى ريب. وليس شرط أن يكون كسبك مادياً بحتاً، لكن مع ذلك يأتي حب القلوب غالباً بكل خير إليك، مادياً ومعنويا.    نعود للتساؤل مرة أخرى ونقول: ماذا لو أن هذه المحبة جاءتك من خالقها ومبدعها؟ ماذا لو أن الله ألقى عليك محبته أو أنه أحبك؟ هل تدرك ماذا يعني أن يحبك الله أو أن يلقي عليك محبته؟ هذا هو موضوعنا، وبالنبي موسى عليه السلام نبدأ، وهو الذي قصده الله عز وجل بقوله (وألقيت عليك محبة مني ولتُصنع على عيني).     يقول أهل التفسير في هذه الآية الكريمة بأن الله ألقى محبته على موسى، فحبّبه إلى آسية امرأة فرعون، حتى تبنَّته وغذته وربته.. وحببه كذلك إلى الطاغية فرعون، حتى كفّ عنه عاديته وشرّه، وقد كان صاحب قرار قتل المواليد الذكور من بني إسرائيل حين سمع نبوءة زواله على يد غلام منهم، فما استطاع أن يرفض طلب زوجته الاحتفاظ بهذا الغلام، بل وقع حبه في قلبه كذلك، وهذا ما يذهب إليه مفسرون آخرون بأن قوله تعالى (وألقيت عليك محبة مني) يعني أنه حببه إلى كل من رآه منذ اللحظة الأولى، وهكذا كان النبي موسى عليه السلام، محبوباً في صغره وبقية حياته.     يصف سيد قطب في ظلاله هذا المشهد الإعجازي: "بالقدرة القادرة، التي تجعل من المحبة الهينة اللينة درعاً تتكسر عليها الضربات وتتحطم عليه الأمواج، وتعجز قوى الشر والطغيان كلها أن تمس حاملها بسوء؛ ولو كان طفلاً رضيعاً لا يصول ولا يجول، بل لا يملك أن يقول.. إنها مقابلة عجيبة في تصوير المشهد. مقابلة بين القوى الجبارة الطاغية التي تتربص بالطفل الصغير، والخشونة القاسية فيما يحيط به من ملابسات وظروف.. والرحمة اللينة اللطيفة تحرسه من المخاوف، وتقيه من الشدائد وتلفه من الخشونة، ممثلة في المحبة، لا في صيال أو نزال".     إن محبة الآخر عملية طبيعية غريزية، لا تدري كيميائية تلك العملية وكيف تحدث؛ أو لماذا حدثت، إذ تجد نفسك أحياناً وقد انجذبت فجأة إلى شخص ما بفعل معين يقوم به أو كلمة صادرة عنه أو ربما لا هذا ولا تلك، بل ما إن تراه حتى تحبه بقدرة الله.. ولعل من أكثر تلك الأمور ملاحظة هي التي تقع بين رجل وامرأة، وربما السر في ذلك يرجع إلى الفطرة الطيبة التي فطر الله كلا الجنسين عليها، والميل الطبيعي الفطري من كل منهما إلى الآخر.   المحبة الحقيقية التي لها علاقة بوجودنا في هذه الدنيا، هي محبة الله. أن تحب الله وأن يحبك الله. والتحدي الحقيقي لكل إنسان في هذه الدنيا أن يحبه الله، لأنه لو تحققت تلك المحبة، فالخير كل الخير أمام هذا الإنسان، كما في الحديث الصحيح المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلاناً فأحببْه فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء. ثم يوضع له القبول في الأرض". قيل بأن القبول المعني في الحديث هو هذه المحبة التي نتحدث عنها. هو الحب الذي يقذفه الله في قلب كل من يراك أو يتعامل معك للمرة الأولى، إذا أحبك الله وألقى عليك محبته.. إنها المحبة ذاتها التي ألقاها على النبي الكريم موسى عليه السلام.. المحبة التي تجذب القلوب جذباً دون أي عناء وتعب في تخطيط مسبق.     التحدي الكبير كما أسلفنا، يكمن في كيفية تحقيق أو نيل محبة الله عز وجل، لأن نيل تلك المحبة يعني امتلاكك لمفتاح سعادتك في دنياك قبل آخرتك، ولن تنالها بالطبع إلا إن ربطت نفسك بالله وكانت علاقتك معه سبحانه، طيبة قوية.. علاقة من تلك التي يخفق قلبك لذكره، وتهفو نفسك إلى من يحب الله ورسوله. تتعامل معهم وتتعلم منهم وتبذل أقصى ما لديك في سبيل ما يرضي الله ورسوله من أقوال وأفعال.. وهكذا تفعل حتى تصل إلى تلك الدرجة التي حدثنا الله عز وجل عنها كما في الحديث القدسي الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "إن الله تعالى قال: من عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعـطينه، ولئن استعاذني لأعيذنّه".      إنها منزلة عالية راقية لا يصل إليها أي أحد. فقط، من أحب الله ورسوله، وحوّل تلك المحبة إلى واقع عملي متجسد على أرض الواقع، على شكل أقوال وأفعال من تلك التي تُرضي الله ورسوله.. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.. اللهم ارزقنا حبك وحب رسولك وحب من أحبك وحب كل عمل يقربنا إلى حبك. [email protected]