14 سبتمبر 2025

تسجيل

(الجبير) ومستقبل سوريا: حين يفرض القرار العربي المستقل نفسه

20 سبتمبر 2015

مرة أخرى، تُثبت الوقائع أن عملية (عاصفة الحزم) كانت بداية صفحةٍ جديدة ومختلفة على كثيرٍ من المستويات، ليس عسكرياً فقط، بل في المجال السياسي الأهم، وتحديداً في مسار العلاقات الدولية. أهم ما في الموضوع هنا يتمثل بأن القرار المتعلق بالعملية، تم أخذهُ في الرياض، وباستقلاليةٍ تامة، ورغم (تحفظاتٍ) كانت عليه من هنا وهناك، خاصةً من أمريكا التي لم تكن راضيةً بالعملية.لم يأتِ القرار المذكور من باب المعاندة السياسية، كما هو الحال عند بعض من يعتمد تلك العقلية في اتخاذ القرارات، ولم يأتِ بعيداً عن مشاوراتٍ إقليمية ودولية، خاصةً مع الأشقاء العرب، رغم ذلك، تم اتخاذ القرار، بعد تلك المشاورات، وفقاً لحسابات تتعلق بالمصالح العامة، ليس للمملكة فقط، بل للعرب بأسرهم في هذه المرحلة.ظهرت دقةُ الحسابات مع الأيام، وبانَ صوابُها، فاختفت التحفظات، وغابت أصوات التشكيك أياً كانت خلفيتها وأسبابها، وأهم من هذا، قَبِلت أمريكا بالأمر الواقع.هذا نموذجُ حسمٍ في الإرادة السياسية المبنية على توازنات دقيقة: معرفة حجمك الحقيقي وإمكاناتك الفعلية، تركيزك على تحقيق المصالح العامة هدفاً نهائياً لاتخاذ القرار، قيامك بالحسابات وفق قواعد الواقعية السياسية بمعناها الشامل، هذا يتضمن استفراغ الجهد لامتلاك أقصى ما يمكن من (أوراق) في جميع المجالات، لكن من (الواقعية) أيضاً ألا تقف عند ما يعتقد كثيرون، خاصةً في منطقتنا، أنها (حدود).. يُصابون بالذعر من مجرد التفكير بتجاوزها، هنا تحديداً يصبح الوقوف بسلبيةٍ بالغة واستسلامٍ مطلق انتحاراً سريعاً، ولا بديل سوى متابعة التطورات بتحفزٍ وانتباهٍ ويقظةٍ ومتابعةٍ لكلّ متغيّر، فتلك الحدود ليست صلدةً على الإطلاق، بل تتصف بكثيرٍ من المرونة، ويمكن لها أن تتغير وتتبدل على الدوام.أما أن تُختزل الواقعية في الدعوة للوقوف عند الحدود (المتموهمة).. فهذا مدخل الهزيمة النفسية والعملية، لأنه يُحيلُ إلى معنى (العجز) في لَبوسٍ مزيف ليس له علاقةٌ بالواقعية.الواضح هذه الأيام أن السعودية ماضيةٌ بحزم، مرةً أخرى، في تطبيق هذا الفكر السياسي الخلاق حيثما تتحقق المصلحة العامة الوطنية والقومية، لها، ولعالمٍ عربي يحتاج لقيادةٍ بهذا المنطق الفعال.فخلال الأسبوع الماضي، جاءت تصريحات وزير الخارجية السعودي عادل الجبير بخصوص القضية السورية، لتؤكد هذه الحقيقة. في التصريحات المذكورة، قال الجبير بكل صراحةٍ ووضوح: "عاجلاً أم آجلا، سوريا بلا بشار الأسد الذي انتهى فيها.. بشار الأسد فاقدٌ للشرعية، ولا مستقبل لسوريا بوجوده". ورغم تأكيده لأفضلية الحل السياسي إلا أنه أضاف: "إن لم يستجب الأسد للحل السياسي، فإنه سيُبعدُ عن طريق حلٍ عسكري.. إذا لم يحقق الحل السياسي المبني على مبادئ جنيف 1 أهدافه الساعية إلى إنشاء مجلس انتقالي يهيئ سوريا لمستقبل أفضل دون بشار الأسد، فإن الحل سيكون عسكرياً". ولمرة ثالثة في التصريح أكد قائلاً: "الخيار العسكري لا يزال قائماً والمعارضة السورية مازالت تواجه الأسد بفاعلية أكبر مع مرور الزمن".هنا أيضاً، لم يقُل الوزير السعودي، المعروف بحرصه ودقته في التصريحات، ما قالهُ على سبيل ردود الأفعال العابرة. هنا أيضاً، كانت وستكون هناك مشاوراتٌ وحسابات تتمحور حول المصلحة العامة للسعودية والعرب. وهنا أيضاً، ستكون هناك (تحفظات) وملاحظاتٌ تُنشر على سبيل التشويش والتشكيك. وهنا أيضاً وأيضاً، سيتم اتخاذ القرار بما يُحقق تلك المصلحة، وبإدراك الوزن الحقيقي للسعودية، ولدورها الأساسي في المنطقة، ولدعم أشقائها الخُلص، ومعرفتها أن (الجميع) سيتقبلون الممارسات المتعلقة بذلك القرار أيًّا كانت.. فبغض النظر عن (التهويش)، يدرك (الجميع) أنه، حين يتعلق الأمر بقضايا إستراتيجية تمسﱡ الوجود، لا مجال للتراجع على الإطلاق.نقول هذا في معرض الإشارة إلى تصريحٍ (عفوي) لوزير الخارجية الأمريكي جون كيري بعد تصريح الجبير بيوم.. قال فيه إنه "لا يوجد حلٌ عسكري للصراع في سوريا". الطريف في الموضوع هو احتفاء كثير من وسائل الإعلام الموالية لنظام الأسد بالتصريح الأمريكي، حتى أن قناة (الميادين) الممولة إيرانياً أظهرت ابتهاجاً ليس له مثيل بالموضوع، ولم يكفِها الحديث عنه بتحليلات متنوعة، بل وضعت أسفل الشاشة لمدةٍ طويلة جملةً كُتب عليها: "بعد تصريحات (الجبير).. أمريكا تقول إنه لا حل عسكريا في سوريا"!.الواضح أن القناة المذكورة، وكثيرين غيرها، يستبعدون تماماً إمكانية أن يوجد عربٌ يمتلكون، في هذه الظروف، فكراً سياسياً اقتحامياً بالملامح المذكورة أعلاه.أكثرُ من هذا، قد لا يذكرُ أحدٌ اليوم ذلك التصريح الذي أطلقه كيري نفسهُ حين كان مرشحاً لمنصب الرئاسة الأمريكية عام 2004، إذ قال يومها إنه إذا أصبح رئيساً فإن "البترول السعودي لن يجد طريقه إلى الأسواق الأمريكية"!، وهذا، قبل أي شيء آخر، من اختلاط الهزل بالجد في عالم السياسة الأمريكي أكثر منه في أي بلدٍ آخر من العالم. فالتصريح المذكور باتَ نكتةً لدى المُعلقين الذين يعرفون حقائق الواقع العالمي من ناحية، ويُدركون، من ناحيةٍ أخرى أن الوعود والتصريحات كثيراً ما تكون أقل قيمةً من الحبر الذي تُكتب فيه بين الساسة الأمريكان.قلنا سابقاً ونُعيدها لمناسبة الحدَث: لا تعرف السياسة الثبات، وحتى حين تكون هناك ثوابتُ تتعلق بالمصالح الإستراتيجية، يبقى الوصول لتحقيقها ممكناً بألف طريقة، وإذ ترغبُ القوى العالمية في ضمان أعلى سقفٍ ممكن لمصالحها، العاجلة والآجلة، بأقل ثمنٍ ممكن، وعلى حساب مصالح الآخرين، وهو ما يحصل في غياب التفكير السياسي الخلاق من قبل هؤلاء الآخرين.. فإن تلك القوى نفسها هي أولُ من يفهم لغة التوازنات، لهذا، فإنها تكون دائماً مستعدةً للمقايضة، ولدفع بعض الثمن، واحترام مصالح الآخرين، في سبيل ضمان الحدّ الأدنى الإستراتيجي من مصالحها الحقيقية.ففي عالمٍ لا يفهم إلا لغة المصالح، يمكن لكل سياسةٍ أن تتغير، ويمكن لكل قرار أن يتبدل، إذا كانت المصلحة تقتضي حصول ذلك، بل إن من الممكن أيضاً حصول كل ما نتصور أنه مستحيل، في حين أنه يكون مستحيلاً فقط حين نَركنُ للوقائع والأحداث، ونرضى بكل المتغيرات، ونقبل مُسبقاً أنها قَدَرٌ لا يُرد..تبقى إشارةُ الوزير إلى (دور السوريين) في الموضوع. وهو أمرٌ يجدرُ بهم الانتباه إليه بجديةٍ وحساسية. ثمة وقائع وإشارات على بدء ممارساتٍ إيجابية تصب في خانة التنسيق والعقلانية السياسية في الأسابيع الماضية.. والمؤكد أن تصريحات الجبير حافزٌ أساسي لبذل جهدٍ أكبر في هذا المسار.