13 سبتمبر 2025

تسجيل

شروط مجتمع الاستقرار

20 سبتمبر 2014

قلت لصاحبي الأزهري: نجمع على مدح المتخلق بالأمانة وذم المتصف بالخيانة، فما معنى الأمانة؟ وما حدودها؟ وما وقعها في حياتنا الاجتماعية الحاضرة؟ قال صاحبي: إن كثيراً من الناس يحصرون "الأمانة" في أضيق معانيها وحدودها، فيرونها قيام الإنسان بحفظ ما يودع لديه من مال، فإن وفاه صاحبه كان أميناً، وإن أنكره وتلاعب به كان خائناً.يقول الله تبارك وتعالى: (إنّا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا)، "الأحزاب: 72".وبدهي أن الأمانة هنا ليست حفظ المال فقط، فذلك ما لا يفيده نص الآية ولم يقل به مفسر من المفسرين، وإنما نستشعر أن المراد بالأمانة هنا شيء تأباه طبيعة العوالم كلها إلا الإنسان، وأن الإنسان وحده هو الذي أهل بطبيعته واستعداده للإنصاف به. وبذلك يكون معنى الأمانة ملازماً للعقل الإنساني والروح الإنسانية، فأصبح تحديداً للأمانة الواردة في الآية هم التزام الواجبات الاجتماعية وأداؤها خير أداء.والجسم أمانة لديك، فإن أنت غذيته وصححته ورفقت به فلم ترهقه بالأعمال ولو كانت عبادة كنت محسناً محافظاً على الأمانة، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: "نفسك مطيتك فارفق بها".وحق المجتمع عليك في إشاعة الطمأنينة والسلام والخير فيه، أمانة تلزم بالوفاء بها، فإن لم تفعل ذلك كنت مسيئاً إلى الناس خائناً لأماناتهم.والعلم أمانة في نفوس العلماء، إن وطّأوا للناس سبله، وكشفوا في الكون أسراره، واستعملوه في رفاهية الإنسانية وخيرها وسلامها، كانوا أمناء أوفياء، يستحقون ثواب الله وخلود التاريخ (إنما يخشى الله من عباده العلماء)، "فاطر: 28".والمال في أيدي الناس أمانة، فإن أحسنوا التصرف به والقيام عليه، وأداء الحقوق الاجتماعية فيه، كانوا أمناء أوفياء، لهم الذكر الجميل في الدنيا، والنعيم المقيم في الآخرة، وإلا كانوا خونة ظالمين، (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه)، "الحديد: 7". (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم)، "التوبة: 35".وهكذا نجد الأمانة تنتظم الاستقامة في شؤون الحياة كلها، من عقيدة وأدب ومعاملة، وتكافل اجتماعي، وسياسة حكيمة رشيدة وخلق حسن كريم.والأمانة بهذا المعنى وهذه الحدود، سر سعادة الأمم أو شقائها، ويوم كانت أمتنا من أصدق الشعوب في حمل هذه الأمانة والوفاء بها، كانت أمتنا خير أمة أخرجت للناس.صلاح الدين رحمه الله من أكثر ملوك عصره توفيقاً في الفتوح والنصر، وكان نصيبه من الغنائم كبير جداً، أوقفه كله لمدارس ومستشفيات ومساجد مما لا يزال بعض آثاره باقياً خالداً ولم يترك لنفسه ولأولاده شيئاً، حتى قالوا حين مات، مات وهو من أفقر الناس.مر علي "رضي الله عنه" في المسجد فرأى واعظاً يعظ الناس فقال له: أتعرف أحكام القرآن وناسخه ومنسوخه؟ قال: لا، فقال له علي: هلكت وأهلكت ثم منعه من التحدث إلى العامة. وهذه هي أمانة رئيس الدولة في صيانة العلم.ووقف الشيخ عز الدين بن عبدالسلام قاضي القضاة في دمشق مرة في وجه سلطان دمشق، وأنكر عليه تعامله مع الإفرنج لقاء نجدتهم إياه في حربه مع أخيه سلطان مصر، واعتبر الشيخ ذلك خيانة للمسلمين وجريمة في حق البلاد، فلما عزله السلطان عن منصبه أبى أن يسكن في بلد يخون فيها حاكموه حقوق الشعب واستقلاله وسيادته.. هذا وبالله التوفيق.