14 سبتمبر 2025
تسجيلالفض الدموي لاعتصامي رابعة والنهضة نقل الاعتصامين من مجرد اعتراض شعبي على الانقلاب ومن مكان محدود بمدينة نصر ومن زمان محصور بين 28 يونيو إلى 14 أغسطس من ذلك العام إلى حالة متكاملة حاشدة بالأحداث والتداعيات وممتدة في تحولات كثيرة طالت الفكر والمفاهيم والعلاقات والنظرة للدين والمتدينين والوطن والوطنيين، كما طالت معنى الثورة؛ ونظرة الشعب المصري لنفسه، ونظرة الشعوب الإقليمية والعالمية له.. ولست أبالغ إن قلت إن الشعب المصري بعد الانقلاب وتحديدا بعد هذه المجزرة لم يعد ذلك الشعب الذي كان يمتاز بولائه لدولته ورئيسه وبوحدته الوطنية وابتعاده عن السياسة وتقديسه للجيش والأزهر واحترامه للكنيسة وانشغاله بيوميات لقمة العيش والمواصلات والخدمات والروح العشرية.. قد صار شعبا مسيسا ومنقسما انشراخيا من أعلى الرئاسة وهيئات الدولة حتى أصغر بيت من زوجين شابين مرورا بكل المفاهيم الدينية والفكرية والثورية والنظرة للغرب ومفهوم ومعنى الدولة الوطنية.. وفي التفصيل أقول: * بعد أن دعم الأزهر وأدعياء العلم الشرعي الانقلاب والمجزرة وقاموا يبررونها ويحرضون الانقلاب على قتل المعارضين، وبعد أن يقول أحدهم - وقد أرخى لحية تكاد تغطي صدره - " تجب طاعة العسكر حتى لو خالفوا الإسلام والمسلمين " وأن يفتي آخر على شاكلته بصحة ولاية النصراني إذا تغلب بالقوة على الأمة ، وبعد أن عقدت بعض المحجبات حلقات الرقص " والهز " في الميادين العامة على أنغام أغاني الدم والفتنة .. كل ذلك في مقابل دعاة الشرعية المدعمين بهيئات علماء ومؤسسات ورموز علمية عابرة للحدود .. ذلك أدخل الإسلام ذاته ومفهومه ووجاهته من أوسع الأبواب في المعركة بين الفريقين ، وأوقع الفرز داخل البيت الإسلامي والديني ، وأسقط قيم التدين الشكلي وأسقط ما تبقى من الأزهر الذي ظل يطوّع الناس للظلم ويخدر الاعتراضات منذ قلب من جامع إلى جامعة أواخر عهد عبد الناصر .. لم يعد لهؤلاء سلطة ضميرية أو قدرة على تزييف الوعي العام عند أي تغيير قادم .. وبتعبير آخر قد احترقت ورقة الدين المزيف وسجل في الذهنية العامة أن التدين الشكلي والمظهري لا وزن له إذا لم تشفع له تغييرات جوهرية في الفكر والسلوك والخيارات .. وجعل هذه التغييرات هدفا على رأس أولويات أي موجة ثورية قادمة .. * وبعد أن قتلت الدولة ( جيش وأمن الانقلاب ) آلاف مواطنيها المصريين المسالمين بكل هذه القسوة والفجاجة ، وبعد أن حرقت المساجد ، وقذفت المصاحف في ( البلاعات ) حتى غصت بها المجاري .. وبعد أن رأى الشعب المصري المسالم والمؤمن والمتدين بالتلقائية كل ذلك .. قد سقطت في وجدانه قيمة الدولة ، وسقط اعتبار الجيش وطنيا ؛ وتفككت الحاضنة الوطنية والشعبية له إلى حد بعيد ، وهذا يهيئ كثيرا لفتنة أهلية ؛ والمتوقع أنه لو نشبت شرارة الحرب الأهلية - لا قدر الله - فلن تكون مصر أقل دماء وشرا مما حواليها ليبيا وسوريا .. وهو ما على علماء الاجتماع والسياسيين أن يأخذوه بنظر الاعتبار الذي لم يعطوه إياه وهم يحللون ويقدرون إمكانات نشوب حرب أهلية في مصر وإمكان استمرارها وعقابيلها حتى الآن . * وبعد أن ضبط الإخوان المسلمون أنفسهم ومئات الآلاف ممن حولهم من أهاليهم ومؤيديهم ومن يدور في فلكهم من خلّص الوطنيين والمثقفين والناشطين في مواجهة استفزاز القتل والاعتقال والغدر وإشاعات الإعلام غير المهني .. كل ذلك أكد لدى جماهير عريضة ورسم للمستقبل القناعة ببراءة الإخوان بأثر رجعي عن ستين سنة من التشويه ، كما نصّبهم على المستوى الفكري البطيء كصمام أمان لأوطانهم .. وفي هذا السياق يمكن النظر والتقيين لشريحة تتسع باطراد تعبر عن تغيير قناعاتها تجاه الإخوان على هذا النحو .. كما يمكن النظر من هذه الزاوية للتحولات الإقليمية التي باتت لا تخفى على المشاهد .. لقد كانت مجزرة رابعة وفي مقابلها سلمية الإخوان حدا فاصلا بين تاريخين ؛ تاريخ جماعة سرية مثقلة بالإشاعات ، وتاريخ بات يرسم لجماعة سلمية واعية راشدة وطنية تفهم المشاركة وتقدم مقتضيات الوفاق الوطني على كل مقتضيات المصالح ودوافع الذاتية التنظيمية والفكرية ذلك صدّر رسالتهم الإيجابية فتقبلها حتى خصوم الفكرة الإسلامية برحابة. * وبعد أن وافقت الأحزاب العلمانية والقومية والليبرالية على المجزرتين ، ثم تسربت تسجيلات لرموز هذا التيار يتحدثون فيها عن ذبح الناس في فرشهم .. وبعد أن انحازت لجان حقوق الإنسان الرسمية لرواية الانقلاب .. وسكت العالم الغربي على هذه الفضيحة بل أيدها وراح يبررها .. وصرح وزير خارجية أمريكا جون كيري بقوله " إن النظام يتقدم في تطبيق خارطة الطريق بطريقة أفضل من تصوراتنا " .. ذلك كله أسقط الأحزاب وأظهر أنها جزء من النظام الذي ثار عليه الناس، وأنها ليست أكثر من "ديكوريشن".. كما أسقط دعوى النظام الغربي بأنه الراعي لحقوق الإنسان .. ولعل ما قاله أحد قيادات الثورة المصرية صحيحاً تماماً ومناسباً عندما قال: لو أن الانقلاب قتل بعدد معارضيه الإسلاميين قططا أو حيوانات لثار الغرب وحاكمه ورفع عنه الغطاء " !ولعل من المناسب هنا أن أنقل ما قالته الناشطة الليبرالية المؤسسة في حركة “ تمرد ” سابقا ( غادة نجيب ) تعبيرا عن هذا التحول .. فقد قالت “ إن مذبحة الفض الدموي للاعتصام السلمي في ميداني رابعة العدوية والنهضة كشفت أن نخب التيار المدني في مصر أحقر كائنات " . هذا الانكشاف بالتأكيد سيكون حاسما في نفض اليد من هذه الأحزاب والمؤسسات وسيحبط قدرتها على التدليس السياسي وسيجعلها هدفا آخر للإصلاح المستقبلي، كما سيشكل حصانة وضمانة من خداع الثقافات الوافدة التي كانت دائما منافساً ومضاررة للفكرة الإسلامية. * آخر القول: التحولات التي طرأت على الشعب المصري والمنطقة بعد الانقلاب والفض الدموي لرابعة والنهضة أكبر وأكثر وأعمق من أن يحيط بها مقال واحد.. واليقين أنه يعتبر ولادة جديدة لمصر ولن تعود مصر تلك التي طوّعوها لأكثر من مائة سنة مضت ..