12 سبتمبر 2025

تسجيل

حول المسألة الدينية

20 أغسطس 2014

من اليسير إيجاد علاقات سببية بين الفشل "الحالي" لثورات الربيع العربي وبين الازدهار الواضح للجماعات الراديكالية التي تؤمن بالعنف كسبيل وحيد للتغيير السياسي. فمع فشل تجارب التغيير المجتمعي السلمي كان طبيعيا أن تتهيأ التربة لنمو هذه الجماعات، خاصة أن ثمة قناعة سارية بين الكثير من المنتمين إليها، مفادها أن سبيل العمل السياسي بات منغلقا أمامهم.غير أن ازدهار هذه الجماعات ربما يشير إلى إشكالية أكبر تتصل بالعلاقة بين الدولة (في عالمنا العربي) والدين، فدولة ما بعد الاستقلال ولدت كمشروع سياسي علماني غير منفتح على الدين ولا على من يعتنقونه كبرنامج للتغيير السياسي، ولعل هذا هو السبب أن محاولات الانقلاب على الربيع العربي تضمنت أطيافا متنوعة (نخبا عسكرية وليبرالية ويسارية وعناصر من الأنظمة القديمة، بل وكثير من النخب الثورية)، ممن لم يجمعها سوى القلق من صعود المشروع الديني.فيما يخص الحالة المصرية كان هذا "القلق" هو المضمون الأساسي لكثير من التصريحات التي نطق بها كثير من المسؤولين عن انقلاب الـ3 من يوليو. فوزير الدفاع (رئيس الدولة الحالي) الذي نفذ الانقلاب أعلن صراحة رفضه الأيديولوجية الإسلامية، وبرر انقلابه على الرئيس المنتخب وجماعته، بكونهم يحملون ولاء لفكرة الخلافة. أما وزير خارجية الانقلاب (نبيل فهمي) فصرح بأن رفض الرئيس السابق لم يكن متعلقا بأدائه، وإنما برغبته أن يعطي مصر وجها إسلاميا، أما رئيس الوزراء الحالي فقد صرح أمام غرفة التجارة الأمريكية، أن الانقلاب لم يقم إلا لإنقاذ الشخصية المصرية ممن حاولوا تغيير هوية البلد ووضعها في قفص حديدي (ويقصد به الأيديولوجية الإسلامية). من ناحية أخرى أسهم الخطاب العلماني منذ اليوم الأول لنجاح الثورة في تأكيد هذه الحالة الصدامية عبر طرح العلاقة بين الدين والدولة على شكل مباراة صفرية، فإما أن تُخضع الدولة الدين على نحو كامل، وإما أن تواجه الدولة "خطر" الأسلمة. ويمكن تلخيص مضمون هذا الخطاب في المقولات التالية:* أن التحرر السياسي في جوهره هو تحرر من الدين، وأن الرابطة الدينية هي أول الروابط التي تهدد وجود الدولة، وأنها من ثَمَّ أولى الروابط بالحل، فالدولة يمكنها أن تتسامح مع الروابط التقليدية، القبلية اللغوية، العرقية، ولكنها يجب أن تظهر حسما خاصا إزاء الرابطة الدينية. * أن الدولة لا تحتاج إلى الدين من أجل اكتمالها السياسي، فبإمكان الدولة أن تحقق للفرد تحرره الكامل، فضلاً عن أن تمده بكل ما يمكن للدين أن يمده به عن طريق الأساس الإنساني الذي هو متحقق فيها دون اعتناقها لدين معين.* أن التدين بالنسبة للدولة هو محاولة لإخفاء نقص، وأن الدولة التي تستخدم خطابا دينيا تصبح تدريجيا دولة نفاق، فهي تحتمي بالدين في مواجهة مواطنيها وتتخذ من الدين ستارا لتحقيق أهداف دنيوية بحتة.* أن الانعتاق من سلطة الدين يكون بنقله من مجال الحق العام إلى مجال الحق الخاص، ليصبح مجرد علاقة شخصية بين الإنسان وربه وليس بين الفرد والدولة، وذلك بتفكيك الإنسان إلى شخص متدين في مجاله الخاص، ومواطن لا ديني في المجال العام.* أن التطور السياسي يمكن أن يسمح للدين بأن يظل قائما ولكن فقط كشاهد على إحدى مراحل تطور العقل البشري والمجتمع الإنساني، مع التذكير المستمر بأن التدين يمثل انحرافا عن الأصل العام للتطور، أو هو نتوءا في التطور السياسي للدولة والتحرر السياسي للفرد. * أن تحرر الدولة من الدين يتضمن أن يتخلى الفرد عن كل امتيازات اتباعه لهذا الدين، وذلك لكي يحظى بحقوق الإنسان العامة، والتي هي حقوق سياسية في قدر كبير منها، أي حقوق لا تمكن ممارستها إلا وسط الجماعة، وتحديدا وسط الجماعة السياسية، ولما كانت هذه جماعة متنوعة دينيا، لزم تحييد الدين قبل التمتع بهذه الحقوق.* من المهم ألا يصبغ الدين الدولة بصبغته، وألا يمثل روحا للدولة، فالدولة بطبيعتها كيان موحد، أما الدين فهو ظاهرة قابلة للتشظي، ومن فوائد عزل الدين أنه يحمي وحدة الدولة من تشظي الدين.هذه المقولات، والتي ترددت كثيرا منذ اللحظة الأولى لنجاح الثورات على ألسنة النخب العلمانية، هي اقتباسات مباشرة من مؤلف كارل ماركس الشهير "حول المسألة اليهودية"، وما طرحه ماركس على شكل أمنيات منذ أكثر من قرن ونصف القرن، وأخذ سبيله إلى التحقق فعليا في دول الغرب تلقفته النخب العلمانية عندنا كعقيدة فكرية وزايدت عليه. فقد ذهب العلمانيون العرب شوطا أبعد من ماركس الذي لم يطالب باستبعاد الدين، أو على الأقل اعترف بصعوبة ذلك، فيما طالب كثير من العلمانيين العرب، ليس فقط باستبعاد الدين، وإنما قبلوا التضحية بالتحرر السياسي والإجهاز على الربيع العربي مقابل وأد تجربة الإسلام السياسي في مهدها. ما يمكن الخلوص إليه أن أطراف الطرح العلماني من النخب الفكرية والعسكريين ونخب المال مسؤولون، إلى حد كبير، عن ازدهار ظاهرة الجماعات الراديكالية، خاصة أنهم ساعدوا على حفز هذه الظاهرة بحديثهم عن "الإرهاب المحتمل"، ثم بجرأتهم غير المتناهية على سفك دماء وانتهاك حقوق المخالفين، وعدم السماح لهم إلا بوجود هامشي غير فاعل، ما أسس لحالة من الاغتراب التي أدت بكثير منهم إلى معاداة الدولة كمشروع سياسي واعتبارها خصما تتعين مكافحته بشتى الطرق.